بقلم / معاذ الخميسي
- أمي.. أصبحت يتيماً في هذه الحياة.. لا أب.. ولا أم.. ولا أخ.. ولا أخت.. ولا بيت.. ولا شيء سوى يدك هذه التي أتحسسها وأتمنى لو أنها تتحرك.. وهي مغمورة بدمك الطاهر.. ومتجمدة.. باردة.. تجمِّدني إلى جانبك وتصعق روحي وتبطش بلحظاتي وقد فقدتكِ وفقدت إخوتي الثلاثة وأخواتي الخمس ولم أجد أحداً منكم بعد أن غطاكم التراب..!

- أمي.. فقط أشتم فوق ركام هذا التراب والأحجار والأخشاب عطر ريحتكم وأجلس على التراب أنتظر صوتاً يناديني لأصحو من منامي.. لأتناول وجبة الصباح..وها أنذا أستوحي صوتكِ يا أمي..محمد.. محمد.. محمد.. وأرد: ها.. أماه.. أرددها كثيراً.. ها أماه..وصداه يصطدم بالسماء ويعود فأحرك يدك.. أهزُّها.. أشدها.. ولافائدة.. تقطعت أنفاسي وأنا أناديكِ يا أمي.. بح صوتي..وغرقت في دموعي.. ورأسي يكاد أن ينفجر.. وها أنذا أدفنه في أحضاني.. ويدي بيدكِ.. لن أنام.. ولن أتحرَّك.. ولن أشرب الماء..ولن أتناول الطعام.. ولن أذهب إلى أي مكان.. سأمسح الدماء من على يدكِ.. وسأنتظرُ أن تنهضي لتنفضي الترابَ عنكِ وتصطحبيني لنبحث بين كل هذا التراب عن إخوتي وأخواتي..ونذهب لنعيش سوياً على رصيف شارعٍ، أو داخل جرفٍ بجبل أو أيٍّ من الوديان، نفترشُ الأرضَ ونلتحفُ السماء..!

- أمي.. لم يتبقَّ لي في هذه الدنيا شيءُ..صاروخٌ واحدٌ أرسلوه بعد أن نمنا في أمان الله كان كفيلاً بمساواة كلِّ شيء بالأرض، وتدمير كوخنا الصغير الذي نسميه منزلاً، وهو كلُّ ما نملكه في الدنيا، تركه لنا والدُنا قبل أن يغادر الدنيا في حادثٍ مروريٍ على طريق الحديدة، وهو يقود سيارته البيجوت القديمة باحثاً لنا عن لقمة عيشٍ كريمةٍ وشريفةٍ..

- أمي.. ها أنذا وحيد في هذه الدنيا أتنفسُ الحياةَ بعد أن كنتُ محاصراً تحت التراب، أنتظرُ الموتَ ببطئٍ لولا عناية الله ولوح خشب سقف منزلنا الذي منع التراب والحجار من دفن أنفاسي وصرخاتي..

-أمي.. لن أحزنَ على منزلنا الذي دمَّرته طيارةٌ معتديةٌ، قذف صاروخها جاراً مسلماً، له منزلٌ وأبٌ وأمٌّ وأطفالٌ وإخوة وأخواتٌ.. وبمجرد أن دمَّر منزلنا الصغير ودفنا تحت التراب عاد لبلاده وعائلته، ليضع رأسه على مخدة النوم.. فهل سينام؟! وهل سيهدأ؟! وهل سيكون بعيداً من اقتصاص الله للمظلوم؟!

- أجيبيني يا أمي.. قولي لي أي شيء.. لاتتركيني أموت في كمدي وحزني وقهري.. لا تصمتي كثيراً، فقد بدأ الرُّعبُ يفتكُ بي خوفاً من أن لا تتكلمي.. سيذهبُ الضوءُ وأنا أنتظرُ حتى همس صوتك.. وسيأتي الليلُ.. فلا تتأخري وتتركيني هنا في وحشة المكان، دون أن أسمعك.. ودون أن أرى إخوتي وأخواتي.. ودون أن أنام وقد وضعتِ لحافي على رأسي، وغمرتيني بدعواتكِ وحبكِ وحنانكِ..

- أجيبيني.. فكيف سأعيش بدونكِ؟ وكيف لي أن أصحو وإشراقة وجهك غائبة عني؟! وكيف سأنام ودفء عطفك وحنانك بعيدٌ مني؟! ومن أين لي بأمٍ وإخوة وأخواتٍ يملأون كل هذا الفراغ وكل هذه الوحشة من حولي ويشعروني بقيمة الحياة..؟!

- أجيبيني يا أمي.. رجاء..أجيبيني.. لا تحرميني منك.. لا تتركيني.. من لي غيركِ في هذه الدنيا.؟ من لي غير إخوتي وأخواتي؟ من لي أشكو له همي وأبوح له بسري؟ ومن لي يسأل عني.. يشفق بي.. يراعيني؟ من سيدرسني؟ ومن سيشتري لي الثياب والقلم والدفتر والكتاب؟ من سيؤمن لي الماء والطعام؟ من سيحميني من شدة البرد؟ ومن سيراعيني في المرض؟ من سيربيني حتى أكبر وأصبح طبيباً أعالج المرضى وأنقذ جريحاً حتى لا يموت متأثراً بنزيف دمه كما مات والدي ولم يجد من ينقذه؟!
- أجيبيني.. يا أمي.. قولي لي ما الذي اقترفناه من ذنب ليقصفونا بصواريخهم؟! ليدمروا منزلنا؟! ليكتموا أنفاسك ويدفنوك مع إخوتي وأخواتي تحت التراب..؟!
- أجيبيني.. يا أمي.. أين سأعيش؟.. وأين سأنام..؟ وكيف..؟؟ وهذا الكون.. والنهار والليل.. والبشر والشجر لا يعنون لي شيئاً بدونكِ.. وهذه الحياة لا طعم لها ولا رائحة في غيابك..!

- أجيبيني.. يا أمي.. أستحلفك بالله.. أجيبيني.. فأنا أعرف أن الموت حق.. لكنك لم تموتي.. فهذه يدك بيدي.. وهذا أنا ابنك محمد.. وحيدٌ.. لا أب.. ولا أم.. ولا أخ.. ولا أخت.. ولا مسكن.. ولا مأوى.. لا تتركيني.. لا تتركيني !!.

نقلاً عن الثورة

حول الموقع

سام برس