سام برس
الغنوشي يُقدم على المغامرة الاكثر خطورة في تاريخه السياسي بالتخلي عن “الاخونة” والاندفاع نحو الليبرالية.. فما هي احتمالات الربح والخسارة؟ وهل ستحدث انشقاقات في النهضة؟ وهل الرهان على السبسي مضمون النتائج؟

اقدم الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي على اكبر “مغامرة” في تاريخه السياسي والدعوي، عندما قاد حركته في اتجاه مغاير تماما لاصولها العقائدية والايديولوجية، وقرر تحويلها الى حزب سياسي “مدني”، على غرار حزب “العدالة والتنمية” التركي، تمهيدا للوصول الى سدة الحكم في تونس، وبالتحديد في الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2019، خاصة لعدم وجود منافس حقيقي حتى الآن، فالشيخ راشد من اشد المعجبين بالتجربة التركية وزعيمها رجب طيب اردوغان.

مؤتمر حركة النهضة العاشر، الذي اختتم اعماله يوم الاثنين الماضي، مهد لهذه النقلة الكبرى الى الحكم باتخاذ عدة قرارات “محورية” مفاجئة، ابرزها فصل السياسي عن الدعوي، او الفصل بين المسجد والحكم، وتوسيع قاعدة العضوية بتخفيف شروطها، ومن بينها شرط الالتزام، الديني لجذب اصوات وتوجهات جديدة، وتغيير الاولويات الايديولوجية والسياسية، من حيث التخلي عن اولوية التركيز على الهوية العربية والاسلامية لمصلحة هوية “تونسية” اكثر براغماتية وليبرالية، والتركيز على القضايا التي تهم المواطن مثل الوظائف والامن، ومحاربة الارهاب والفساد، واصلاح الترهل الوظيفي.

انتخابات البرلمان عام 2014 شهدت اول بوادر هذا التحول، عندما تبنت حركة النهضة العديد من المرشحين الليبراليين الذين لا يتمتعون بعضويتها، وفاز ستة منهم بمقاعد في البرلمان تحت لائحتها، واشتركت (النهضة) في الحكومة الائتلافية التي منحتها الثقة، بحقيبة واحدة فقط، وهي حقيبة العمل الوزارية، وهي اصعب الوزارات، واقلها فرصا للنجاح في بلد فيه مليون عاطل، والهدف هو الحرص على دعم استقرار البلاد.
كان لافتا ان الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي حرص على حضور المؤتمر والقاء الكلمة الرئيسية، وقوبل بعاصفة من الهتاف والتصفيق من الاعضاء الحاضرين، وهذه سابقة في العمل السياسي والحزبي، فمن المفترض ان حركة “النهضة” حركة معارضة لحزب “نداء تونس″ الحاكم الذي اسسه ويتزعمه “ضمنيا” الرئيس السبسي.

هذا “التفاهم” بين الرئيس السبسي والشيخ الغنوشي هو الذي اوصل تونس الى بر الامان، وجنبها ما مرت به دول اخرى من حالات من عدم الاستقرار والانهيار الاقتصادي بالتالي، والثورات المضادة، حسب راي الكثير من المراقبين.

عندما التقى رئيس تحرير هذه الصحيفة “راي اليوم” السيد الباجي قايد السبسي في منزله المتواضع الملحق بقصر قرطاج في ايار (مايو) 2015، وسأله عن طبيعة العلاقة التحالفية التي تربطه بالشيخ الغنوشي، اجاب بقوله: ان “حركة النهضة هي غير صورتها في الخارج، وانا اوضحت للغربيين في كل زياراتي الخارجية مدى اعتدالها وواقعيتها، وقلت للشيخ الغنوشي بكل صراحة ووضوح، امامكم احد خيارين، اما هدوء واستقرار تونس واخراجها من عنق الزجاجة، واما تكرار التجربة المصرية، واكد انه وجد تفهما وتعاونا كليين من الشيخ الغنوشي في هذا المضمار، وان الغنوشي اختار الخيار الاول، وظل وفيا لتعهده”.

الرئيس السبسي قال في كلمته انه تردد في حضور مؤتمر النهضة العاشر، ولكنه قرر المشاركة رغم الانتقادات الكثيرة، وكان ابرز ما قاله في كلمته الرئيسية ان “العبرة بالاعمال.. والتطبيق العملي الميداني بمباديء التغيير التي تبنتها الحركة”، وهذا “تحذير” مبطن للحركة من ان قراراتها تواجه بالكثير من التشكيك في اوساط تونسية عديدة.

فوز الشيخ الغنوشي واستمراره كرئيس لدورتين لحزب النهضة، هو استفتاء على زعامته، والتغييرات التي يقف وراءها، فقد حصل على 80 بالمئة من الاصوات، وهذا يعني ان هذه الاغلبية الساحقة تؤيد الابتعاد عن الاسلام السياسي، وقطع العلاقة مع حركة “الاخوان المسلمين”، ووضع مصلحة تونس وشعبها فوق كل الاعتبارات الاخرى، وادارة الظهر كليا لماضي الحركة، وفتح صفحة جديدة.

سيد الفرجاني، احد ابرز قياديي التوجه الجديد للحركة، لخص الامر بكلمات معدودة، وهي ان النهضويين يخشون من الثورة المضادة مثلما حصل في مصر، التي قد تعيدهم الى السجون او المنافي، ونسب اليه قوله “الاسلمة ليست الايديولوجية والمنهاج الصالح للحكم.. الاسلمة لغة جيدة للمعارضة”.

من المؤكد ان هذا التحول الجذري سيؤدي الى حدوث انقسامات في حركة النهضة، وخروج التيار المتشدد من تحت عبائتها، خاصة بعد توسيع دائرة العضوية فيها، واضافة مئة مادة جديدة الى ميثاقها الداخلي، ومنع اعضاء مجلس الشورى فيها من القيام بأي اعمال دعوية (الخطابة في المساجد)، او الانضمام الى اي منظمات خيرية، ومن المتوقع ان يخرج منها حوالي خمس الاعضاء على الاكثر، وقد يكون على رأسهم الشيخان صادوق شورو، وحبيب اللوزي، لانهما يفضلان الاستمرار في دورهما الدعوي، ولكن وفي ظل السياسة الانفتاحية الجديدة سيتم تعويض هؤلاء المتوقع انشقاقهم بعدة اضعاف في العامين القادمين.

انها “مغامرة” خطرة جدا يقدم عليها الشيخ الغنوشي، تعكس شجاعته وصلابته، ولكنها مغامرة محفوفة بالمخاطر، فحليفه الرئيس السبسي متقدم في السن (87 عاما)، والمجتمع المدني التونسي لا يثق كثيرا بحزب النهضة، ولا يأخذ هذه التغييرات بجدية، ويشكك فيها، والمرأة التونسية تلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية، وهي التي اوصلت الرئيس السبسي الى قصر قرطاج (فاز بمليون و800 الف صوت من بينها مليون و200 الف صوت للنساء)، ونسبة محدودة من النساء صوتت لحزب النهضة.

ومن المفارقة ان هذه “المغامرة” ستغضب الكثير من الاسلاميين المتشددين وحركة “الاخوان المسلمين” ومنتسبيها، ولن ترضي في الوقت نفسه الكثير من الليبراليين، والتونسيين منهم خاصة.
من الصعب اطلاق احكام مسبقة على هذا التحول غير المفاجيء في ايديولوجية حركة “النهضة” واولوياتها السياسية والعقائدية، فالقرارات التاريخية تخلق اعداء واصدقاء، ونعتقد في هذه الصحيفة ان الشيخ الغنوشي كسب من الاصدقاء اضعاف ما خسره من الاعداء.
“راي اليوم”

حول الموقع

سام برس