بقلم/ سعدية مفرح
أعاد جورج أورويل إليّ الثقة بنفسي، وبمهنتي الجميلة، وبهواياتي المبكرة فيها، فقد كان صحافياً قبل أن يكون روائياً، ومن الصحافة اخترق الواقع الروائي بعدد من الروايات التي سرعان ما جعلت منه رقماً صعباً في تاريخ الكتابة كلها.


أعود إلى قراءة المجموعات الشعرية التي تعجبني عشرات المرات، بلا كلل أو ملل، وبالمتعة نفسها التي أقرأها فيها أول مرة، أو ربما تزيد في كل مرة. هذا هو سر الشعر. أما الرواية فمهما كانت رائعةً، لا أعود إليها إلا في حالات نادرة جداً، ولعلي لم أفعلها إلا مع رواياتٍ لا تتعدى العشر طوال عمري في القراءة عموماً. ذلك لأن الروايات دائماً تكشف عن كل أسرارها منذ القراءة الأولى، بطبيعتها الإبداعية وتكوينها الكتابي. لكن للشعر من الأسرار الخفية والمعاني الخبيئة ما يتجدّد مع كل قراءة جديدة تضاعف المتعة، وتزيد من كثافة اللذة في كل قراءة.
مناسبة هذه الملاحظة السريعة عودتي، أخيراً، إلى قراءة واحدةٍ من الروايات النادرة التي عدتُ إلى قراءتها ربما أكثر من مرة، هي “1984” لجورج أورويل، أحد أهم كتاب القرن العشرين، ومن الصحافيين الذين حبّبوا إليّ مهنة الصحافة في ظل واقع أدبي، كان يضغط عليّ دائما أن أتركها في سبيل كتاباتي الشعرية والأدبية بحجة أنها تستهلك اللغة، وتستولي على الوقت المخصص للكتابة الإبداعية، وتنحدر بمستوى الكتابات الأدبية إلى حضيض اللغة الخبرية المباشرة.

حسناً.. أعاد جورج أورويل إليّ الثقة بنفسي، وبمهنتي الجميلة، وبهواياتي المبكرة فيها، فقد كان صحافياً قبل أن يكون روائياً، ومن الصحافة اخترق الواقع الروائي بعدد من الروايات التي سرعان ما جعلت منه رقماً صعباً في تاريخ الكتابة كلها. ومن أكوامٍ من المقالات والتحقيقات والأخبار، نهض قلم جورج أورويل ليكتب رواياته، بلغته التي يصفها النقاد المتحذلقون بالمباشرة، وربما السطحية، فقط لأنها خاطبت القارئ بوضوح شديد، من دون أن تتخلى عن فنيتها، ولغتها البلاغية، وعمقها الفلسفي الذي مسّ التاريخ الوجودي للإنسان.

كتب الروائي والصحافي الإنكليزي، جورج أورويل، روايته الشهيرة “1984” في 1949، وسرعان ما تلقفها القارئ الأوروبي الخارج من ويلات الحرب العالمية الثانية، والمنذهل بنتائجها الكارثية على واقع البشر في عموم الكرة الأرضية، لتترجم لاحقاً إلى أكثر من ستين لغة، وتُختار واحدةً من أفضل مائة رواية في التاريخ الروائي كله.

ويدلّ عنوان الرواية على أن كاتبها كتبها استشرافاً لما رآه مستقبل الإنسان المنغمس في قيم الحضارة والمدنية الجديدة، ككائن حر ومستقل، على الرغم من أنه، في الحقيقة، لا يملك من حريته، ولا من استقلاليته وخصوصيتها الكثير. وقد حدث ما توقعه أورويل، في روايته العجيبة لاحقاً، إلا أن هذا لم يفقدها قيمتها الاستشرافية أبداً، فقد ظلت تلك الرواية الساحرة، على الدوام، وخزةً للضمير الإنساني المتواطئ مع أي حكم شمولي محتمل! وانتقاد مزمن ومستمر لتلك الأنظمة التي تبني أحكامها بأدواتٍ من القمع والديكتاتورية والطغيان السلطوي الشامل، من خلال رقابةٍ لصيقة للإنسان في كل تصرفاته الفردية والجماعية.

والواضح أن أحد أهم عوامل نجاح هذه الرواية المستمر أنها ظلت صالحةً لتكون أيقونة نقد مستمرة بطريقة مباشرة وساخرة، جعلت المرء يحاسب نفسه بنفسه على السكوت والصمت على الظلم الذي يتعرّض له من قبل ما أطلق عليه الروائي بحسّه الصحافي الساخن “شرطة الفكر”.

كان أورويل يكتب روايته، وهو على سرير مرض السل الذي أنهى حياته لاحقاً، وعندما كان ينصحه الأطباء أن يترك الكتابة قليلاً ليريح جسده، كان ينظر إليهم ساخراً، ويتناول قلمه وأوراق الكتابة، لينتهي من نحت مصطلحاته التي انتشرت لاحقاً في معظم الكتابات السياسية، من دون أن يعرف الكثيرون أنها من منبع روائي بحت، مثل “التفكير المزدوج” و”الأخ الأكبر”، والحرب الباردة”، و”جريمة الفكر”، وغيرها من مصطلحاتٍ ساهمت في رفد الفكر السياسي بلغة أدبية رفيعة، وغاية في البلاغة والإيجاز، كما ساهمت في توصيف تلك الرواية بأنها لا تُملّ، وتوصيف ذلك الروائي كاتباً لا يموت.
*نقلا عن العربي الجديد

حول الموقع

سام برس