الباحث /عبدالرزاق القلسي
الشاعر يكتب اللوحة ..و هو يجترح لغة شعرية خاصة به تتحرك بين الألوان و الأضواء
الباحث /عبدالرزاق القلسي

في اللحظة الراهنة للشعرية التونسية توجهان كبيران في كتابة الشعر الأول يعيد لقصيدة النثر كل قوتها و القها بعد ان شاع وعي بالا مستقبل لها في الفضاء العربي للقراءة ، و توجه ثان يتخرط مجددا في التجربة التموزية للشعر الخمسيني ، سواء في ادواتها ( استحضار الأسطورة تمثيلا ) او في افقها النظري و خلفيتها الفلسفية ( مفاهيم الثورة و التحديث على انقاض التراث القديم ) .

تبدو لنا تجربة الشاعر التونسي شمس الدين العوني في الكتابة على تماس بين هذا و ذاك .فهي عاشقة للشعرية العربية الحديثة و منحازة الى مفاهيمها و الى اعلامها الذين يذكرهم الشاعر بالاسم و الصفة في هذا الديوان الصادر منذ سنوات قليلة ، و هي ايضا تكتب قصيدة النثر عسى ان يكون لها في عرف القراء وجود و اعتراف .
المؤكد لدينا أن الشاعر لا يستطيع بمفرده أن يخلق عرفا جديدا في القراءة و لكنه مع ذلك يجتهد بأن يكون له صوت ووجه و تجربة خاصة ، فاذا ما كانت كتابة الشاعر يوسف رزوقة قائمة على تحديث الحديث و عولمة المحلي و كوننة الصغير و الهامشي و اذا ما كان الشاعر الراحل الصغير اولاد حمد يمعن في كتابة النص المحمل من الشكوى و الوجع من الاخر و المصطحب بقدر غير معلوم من عنف اللغة ازاءه فان العوني على مشروع في الكتابة تتماس فيه لغة الشعر مع لغة الرسم مع لغة الموسيقى و مع ممكنات النحت ومع آفاق الصورة الميديولوجية و لاجل ذلك نفذ بنا الى كتابته من خلال استحضار لاعلام مثل باربارا هندريكس و سركون بولس و غيرهم من الشخصيات التي ماتزال على قيد الحياة ام طوتهم السكينة الابدية .

ان لغة الشعر لدى العوني ليست مقدودة من الاشياء و الموجودات فحسب و انما مادتها هي الاخر و الفنون التي يمارسها من اجل التعبير عن ذاته او عن هويته او من اجل ان تكون هناك هوية مشتركة مع الاخر و من بين الفنون التي يستوحي منها الشاعر شعره الرسم و الموسيقى فقصائده جداريات بالباستيل و بالالوان التي تتكرر تقريبا في كل نص فكانما الوجود لدى الشاعر لوحة تنتظر من الشاعر ان يرسمها بمادة الحلم و بلاوعي الشاعر في ذات الحين .و تضج القصائد باسماء الاعلام منها ما يحيل الى الابداع و الى الجماليات مثل الشاعر اللبناني الجنوبي شوقي بزيع و منها ما يحيل الى عالم السياسة مثل اردوغان و منتظر الزيدي و المؤكد لدينا ان هذه الاعلام لا تتنزل في القصيدة و في رؤية الشاعر المنزلة ذاتها و مع ذلك فان مجرد ذكرها هو تشريف لها و هو تشريف من الممكن الا تكون اهلا له اذا ما نظرنا الى القصيدة من منظار السياسة و منظار التاريخ الراهن و الواقع اليومي فالشاعر يذكر بوش و المثقف الامريكي مايكل مور و هما – بمجرد ذكرهما – من موضوعات القصيدة و من حركاتها التي تستقطب القراءة و في تلك اللحظة تقل الشعرية لاننا نبحث عن موقف الشاعر و عن دواعي استحضار هذه النماذج الى قصيدته و الحال انها قد احتكرت الفضاء الخارجي بكل عناصره المرئية و العنيفة و الممكنة .

ان المؤكد لدينا ان الشاعر لم يستحضر كل هذه الأسماء الأعلام على صعيد و احد فهي تتفاوت في رمزيتها و في حضورها و غيابها و لكن ما يمكن الوقوف عليه هو هذا الحس التواصلي العميق مع الآخر ربما يقل مثاله في الشعرية التونسية اذ تعودنا من الشعراء تضخم الذات و و الحضور النرجسي و الوعي الانوي للعالم اما في هذا الديوان فان الاخر تجربة و حضور و تثاقف مع الشاعر الذي يرى فيهم تجارب يمكن الانصات اليها و توطينها في النص و توليد المعنى و الفكر فالشاعر يمنح قدرا من زمنه الخاص ليتطابق او يتقارب مع ازمنة الاخرين مع ما في ذلك من سماحة و انفتاح فهو يذكر اهل السياسة و لكن يمر عليهم مرور الكرام اذ ان تجاربهم في الوجود هي تجارب غير شعرية في الغالب و هي تجارب " تطغى عليها الحشرجات " ص.21 فيما تجارب الرسام الراحل محمد التونسي تجعل " الحكايات تنهض من سباتها " ص.23 و فيها يتضاعف قيمة الطين- و هي المادة الشريفة في المنظار الالهي –على يد النحات ماهر الطرابلسي بحيث " يعلو الطين الفاخر /و معدن الحال .ص.24 .ان الشاعر شمس الدين العوني في هذا الديوان اذ يقف على تجارب هؤلاء الفنانين فانه يبحث فيما يبدو عن مبدا الانسجام بين هذه الفنون و بين الانسان و بين شعره و بين هذه اللغات الفنية و الجمالية الالخرى ، على عكس مثلا الشاعر يوسف رزوقة الذي تستثير شعريته مظاهر الفوضى و الدمار و الانفجار و التشظي ، او الشاعر الصغير اولاد حمد الذي يرى العام مقبلا على ثورة او مدبرا عنها فيما ان الجيل الذي يتلو شمس الدين العوني مستغرق في شعرنة الحميمي و الخاص او الافراط في التعبير عن الجسدي .

ان الشاعر العوني يرى العالم خاليا من النشاز و في حالة من التناغم بين الموجودات و بين الانسان ، بين العالم الباطني للانسان و بين عالمه الخارجي و هذا ما نراه في تلك المزهرية الشهيرة التي رسمها احد أساطين الرسم الانطباعي و التي رأى فيها الشاعر لغة للأزهار و للعشاق و " لدهشة الألوان " ص.27 و رأى في تناسب الألوان تناسبا ممكنا للقصيدة و بتقدم الديوان نلاحظ أن العوني شاعر حالم بأن يكون رساما أو فنانا تشكيليا .

و هذا الوعي التشكيلى للشعر لم ينضج لدى آخرين الا في آخر تجاربهم ، و يمكن أن نذكر في هذا المقام أدونيس و الشاعر الفرنسي الكبير ايف بونفوا و الشاعر البرتغالي الذي أفرد له قصيدة وهو " نونو جوديس " بل ان هذا التثاقف مع الآخر قد عمق لدى الشاعر ما يمكن تسميته بلغة هيدغر " بالطابع الشيئي " للفعل الابداعي اذ الألوان مادة و لكنها مادة مخصوصة زاخرة بالمعاني الكامنة و الثاوية و راء الألوان ذاتها .
ان الشاعر يقر بهذا التثاقف "فأنا أقرا كتاب أدونيس الأخير " ص.30 و هو اذ يستحضره و يتثاقف معه لا لكي يعترف بأبوته و انما يتجادل معه اذ التطابق الكامل في التجارب غير ممكن و غير مرحب به في كل حال ، و لكن ما هو ممكن هو البوليفونية ، اي ان يكون للاخر في عالمك موطئ قدم ، و لسان خطاب ،و مساحة للحركة و هذا ما اتسع له ديوان العوني و ان لم يرتق بالبوليفونية الى المسرحة و الدراما و انما ظل التسريد و التنثير هو القوة الخطابية الكامنة في أغلب نصوصه .

ان الآلية التي تضخ المعنى في ديوان " تحت شمس وارفة الظلال " هي آلية مستوحاة من الفنون الجميلة فنجد النور و الاضاءة و آلية الالوان التى لا تبرح القصائد الا فيما ندر و هذا ما سمح بان تكون للقصائد هوية تشكيلية التي تبدو هي مقصد الشاعر فمن " أعراس اللغة "ص.34 " تنبثق من بين النقوش و السيراميك الوان " ص.25 كما اننا نجد حضورا كميا كبيرا للاصوات و هذا ما يحيل الى عالم الموسيقى الذي لا يخفي الشاعر افتتانه به ، و يظل حلم الشاعر في ان يتحول العالم الى موسيقى ، و يبدو انه قد وجد في بيروت و دمشق نماذج و امثلة لذلك ، و هذا في حد ذاته ما يدعم القول بانه عاشق للانسجام و لقيم التناسب و هو نابذ للفوضى و لقيم النشاز "فعذوبة موسيقى فيروز " ص.37 لون من ألوان الدهشة أما ابدعات الرسام التونسي نجا المهداوي فهي " ألوان الذكرى " ص.39 و في اثناء ذلك يحتفي الشاعر بالذاكرة التي تستوعب كل الجماليات و أجناسها المختلفة :النحت و الموسيقى و الرسم غير أننا نرى أن الشاعر حينما يعمد الى أن يموضع نفسه في تلك العوالم لا يبقي على مسافة موضوعية معها و هو ما يجعله قطب تلك العوالم في حين أن الأصل أن يكون الآخرون هم الأقطاب و هم الذوات و هذا من شانه أن يقوي آلية التسريد و الحكي و يضعف آلية الشعر و الشعرنة و التوقيع فالشاعر يتجه بقصيدته الى قصيدة النثر لان هذه الذاكرة الضاجة بالفنون تدفعه الى أن يسرد ما كان في ذاكرته بحيث تتحرك القصيدة الى حيث يجب أن تكون .

ان التجربة تصنع الانسان و الشاعر ، و هذا ما لاحظناه في هذا الديوان الذي يبدو فيه للمكان تاثير حاسم فالشاعر ممتلأ بالمكان و بالصحراء تحديدا و هو ينشأ التعارضات الدالة سيميائيا ما بين المدينة/ البادية او الصحراء و يستعيد قدرا من تجربة عبدالمعطي حجازي في تاكيد التنافر الازلي بين الفضاءين و بين العالمين
غير أن بعض التعارضات لم تكن بالعمق ذاته خاصة ما بين الصحراء و بين فلسطين في قصيدة " ليلة ضعنا في صحراء زلة " غير أن ما يثير النظر فهو الضوء و النور و العتمة و الظلام و كل الازواج التشكيلية التي تعيد الشاعر الى العالم الأثيل لديه ، الى الفنون فالقصائد لديه تصبح كلاما على الرسم أو رسما على الكلام و يصبح هذا الرسام " العاشق الحائر الواقف القلق " ص.53 هو روح القصيدة حيث يقيم فيها امله ووجعه و حيث يحتفي بفنونه و حروفه .ان الشاعر يجترح لغة شعرية خاصة به تتحرك بين الالوان و الاضواء و في وعي الرسام و خارجه و بلغة الشاعر و بمفرداته تماما كما اشتغلت فضيلة الشابي على الشعر بممكنات النحت و المزغني على الشعر بممكنات المسرحة و الالقاء و رزوقة بالتاريخ الراهن المفتوح على مصائر مخيفة ...ففي ظل هذا المكتوب الشعري التونسي و العربي يبحث الشاعر عن صوته و عن هويته ، و في هذا الديوان يخف النزوع العروبي الذي ميز دواوينه الأولى و الذي ترافق مع زيارته الى بغداد قبل الغزو الامريكي و لكن تضاعف نزوعه الى الجماليات و الى الفنون لعله " يسبح بعيدا عن مياه القطيع " ص.57 و ليبحث عن " الضوء المفقود و عن اللمعان " الذي يمنح اللوحة المرتجاة المعنى و هو يبدو مهووسا باللون الاسمى هوسه بالقصيدة العصماء و كلاهما لحظتان هاربتان عصيتان عن الامساك فاللهاث نحو اللون هو ما يسكن وعي الشاعر لا لكي يرسم اللوحة و انما ليلتقي ب "تبر اللغة " و بنصاعتها الاولى التي تتالق في الشعر .

ان الألوان في شعر العوني ليست تلك الألوان الوهاجة التي تثير الرغبة و انما الألوان الخافتة التي تجعل في ذات الشاعر القدرة على التحكم في انفعالات النفس و في تعقل الأشياء و الدعوة الى التفكير انطلاقا من حشد الألوان بما يشي أن هناك وجودا خفيا و متواريا عن " بياض القماشة " ص.65 و في "آهات الكلام " و في " سر التواريخ " و في كل ما هو محجوب و خفي عن الوعي و عن المرئي و الرائي الذي يشتغل بالاشياء و مع الأشياء ليقيم كونا من الوجود على مثال حلمي / رؤيوي ينخلق بالتدرج تماما كلوحة زيتية تبدأ بلطخة أو بذبذبة ثم تستوي كونا تشكيليا عامرا بالمعنى و بالسرد و بممكنات التأويل و القراءة . ان ما يميز قصائد العوني هو ذات ما يميز اللوحة و هو قانون المركز ، أو التيمة المركزية فقصائده تدور حول الأنت أو حول الأنا أو حول هذا العلم أو ذاك فالنواة واحدة تماما كنواة اللوحة التي هي مدارها و نقطة ارتكازها الهندسي و هذا ما يجعل نصوصه لا تنمو لسانيا و تاريخيا الا في حيز محدود على عكس مثلا قصائد ادونيس التي تتعدد فيها النويات و المراكز حتى لكانها تبدو ملحمة مصغرة .فالعوني يبحث عن تطابق ممكن لبنية القصيدة مع بنية اللوحة في مستوى نقطة الارتكاز التي هي العنصر الذي تدور في فلكه بقية العناصر .و قد وجد التطابق هذا في تقديرنا في الحشد من الالوان لدرجة انه يكتب ما يمكن تسميته " بالقصيدة الانطباعية " ( مرادف للوحة الانطباعية ) التي يكون اللون موضوعها و شكلها في ذات الحين .

اننا نرى ذلك كله في أغلب القصائد و خاصة في قصيدة النثر " مرح عربي " التي كتبها الشاعر فيما يبدو في دمشق و هي تزدحم بأسماء الاعلام الذين هم كاللطخات في اللوحة ،و تزدحم بالألوان التي هي في منزلة الأشكال و الأشياء في القصيدة و هي تزخر بالحركات الي هي السردية الكامنة في كل لوحة انطباعية ( غير تجريدية ).ان كل قصيدة في شعر العوني هي سردية بالقوة في لوحة يروم يوما ما أن يرسمها .

حول الموقع

سام برس