بقلم / سعدية مفرح
كنت في بدايات عملي الصحافي عندما كلفني رئيس التحرير في الصحيفة التي أعمل فيها بإجراء لقاء موسع مع الأديب الكبير يحيى حقي أثناء زيارته القصيرة للكويت. فرحت بالفرصة الذهبية التي أتيحت لي ورحت ألتهم ما تيسر لي من كتبه حتى أنني قرأت له أربعة كتب قدمها لي رئيس التحرير في يوم وليلة فقط، وبعدها جلست لأعد أسئلتي قبيل اللقاء الذي أتفقنا أن يكون في بيت ابنته نهى حقي المقيمة في الكويت برفقة زوجها.

لم أتخيل أنني سأخرج من ذلك اللقاء الذي كان تاريخياً بالنسبة بكل تلك المشاعر تجاه «الإنسان» يحيى حقي! حتى أنني عكست لاحقاً المثل الشهير يقول «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، فصرت أقول: «ترى يحيى حقي خير من أن تقرأ له»! على أن هذا كان المدخل الحقيقي لقراءة حقيقية بدأت منذ ذلك الحين لكل ما كتبه هذا الأديب الكبير. ومع كل كتاب جديد أنتهي من قراءته ليحيى حقي كان ينتابني شعور بتأنيب الضمير ليس لتقصيري في القراءة له وحسب ولكن أيضاً لأنني انسقت وراء مشاعر سلبية تجاهه لا أعرفها يقيناً ما مصدرها قبل أن أقرأ له فعلاً.

لم يكن هذا الأديب الكبير في سياق الكتاب المفضلين بالنسبة لي رغم أنني في تلك الفترة كنت أقرأ كل شيء تقريباً، كنت في مرحلة لا أميز فيها بين اسم وآخر أثناء القراءة لكن حاجزاً ما لم أكن أدرك أسباب وجوده كان يقف بيني وبين كتاباته. كانت قراءتي له بدأت أثناء دراستي في كلية الآداب عندما اخترت روايته الشهيرة «قنديل أم هاشم» لمقارنتها بمسرحية كويتية للكاتب عبدالعزيز السريع عنوانها «عنده شهادة»، في إطار كتابتي ورقة بحثية عن الأدب المقارن. ولم أعد لعالم يحيى حقي بعد ذلك إلا عندما وجدت نفسي في تلك المهمة الصحافية.

علمت وأنا أحضر نفسي للقاء أن يحيى حقي ينتمي لأسرة ذات جذور تركية لكنه ولد ونشأ وترعرع في أجواء مصرية خالصة بحي السيدة زينب في القاهرة وفي «كُتّاب» ذلك الحي الشعبي تلقى تعليمه الأولي وانصبغت روحه بتلك الصبغة الشعبية الني انعكست لاحقاً على معظم كتاباته القصصية التي جعلت كثيرين يتعجبون من تلقائيتها وهم يرصدون تفاصيل حياته ذات النزعة الأرستقراطية خصوصاً أثناء عمله الدبلوماسي!

ما الذي حدث بالضبط أثناء اللقاء ليغيرني تماماً، وليجعلني أتمنى ألا ينتهي اللقاء الذي استغرق ساعة واحدة فقط؟ كانت الأسئلة عادية وإجاباته كذلك، لكن غير العادي بالنسبة لي ساعتها تلك النظرات الحانية التي كان يوزعها بيني وبين نهى ابنته طوال اللقاء، ولن أنسى قط أنه قطع استرساله بالحديث عندما لاحظ أن نهى تجلس في مهب الهواء الذي يهب من النافذة المفتوحة وراء ظهرها. قال لها بما يشبه الرجاء أن تضع شيئاً لتحمي ظهرها حتى لا تعاودها آلام الظهر، وعندما رأى أنها لم تهتم بالأمر قام بصعوبة متكئاً على عصاته فاتجه نحو النافذة ليغلقها ويعود مبتسماً ويربت على كتفيها بحنو بالغ في مشهد أسرني تماماً.

عندما قامت بعدها نهى لتحضر لنا الشاي قطع الأب الحنون الحديث المسترسل بيني وبينه مرة أخرى ليقترح علي بهمس أجتهد حتى لا يصل إلى مسامع نهى أن أجري معها لقاء وأنشره بدلاً من هذا اللقاء الذي أجريه معه الآن إن كان من الصعب علي الجمع بين اللقائين!

قال لي إنها تكتب مسلسلات للتلفزيون وهي تستحق الشهرة أكثر منه بكثير.. كانت نهى في تلك اللحظات قد أقبلت فأنهى حديثه الهامس لي وبقي الرجاء معلقاً بين عينين حانيتين بقيتا رمزاً لمعنى الأبوة لدي كلما تذكرتهما! عينا أديب رأيته فاكتشفت أنه أجمل بكثير من كل ما كتب!
* نقلاً عن مجلة اليمامة

حول الموقع

سام برس