سام برس / شمس الدين العوني
تلوين شعري حداثي... يقول بالحلم تجاه عالم هش و معطوب...

ما القصائد ؟... ما اللغة؟ ... ما الشعر اصلا ؟ اسئلة  محيرة تبتكر حيرتها من جنسها باعتبار المساحات الممنوحة لمداراتها المرعبة والمربكة والمأخوذة بتلوينات الخيال والدهشة والذهول.
 لذلك يقف  الشاعر تحديدا مأخوذا بالاحوال لا يقنع بغيرها في ضرب من التأمل والوجد  والصمت المفجر للمعاني..
انها المتاهة المحفوفة بالجمال... بالمعرفة وبالفداحة الكامنة خلف المغامرة مغامرة  الكتابة بما هي حرفة... وحرقة... والشعر  هنا فصاحة  القلب وفقسياق مفتوح على الكينونة لتظل الطفولة عنوانا باذخا من عناوين الشاعر الذي يرى بعين القلب ما لا يراه بعين الوجه ... القصيدة اذن وبهذه الافكار الآسرة  تلمس للاشياء وتقصد للألفة تجاه العناصر والتفاصيل وأبعد من ذلك هي لعبة الكشف باللغة وفي اللغة في جوهرها وعنوانها...  لاجل الصفاء  النادر هذا الذي تنجم عنه حالات الذوبان والتداخل بين الذات الشاعرة...  والآخر...
الآخر ونغني به مثلا تيجان المعاني والحروف ودهشة الامكنة والازمنة...  ومتعة هذا الادراك لحظة  الكتابة...
 الكتابة  وعي استثنائي ... والشعر هو أقصى درجات  هذه الكتابة وهذا الوعي. وتأخذنا مفردة أقصى الى ما يعني القلق... انه القلق القديم... قلق المتنبي وقلق شاعر  الآن والهنا..
 انه القلق  الجميل المؤسس بما به تستقي العناصر والتفاصيل في تناسقها وفي فوضاها وفي ما يجترح منها من اللغات  والمعاني... 
هكذا يأخذنا الشعر الى دروب  شتى ومنعطفات فادحة لا نلوي معها على غير القول بالمتعة في عنفوان تجلياتها الجمالية  والتعبيرية بما يعزز  من روح التكثيف  تجاه الشجن  الانساني الاخاذ الذي معه وضمنه تفتح  الكينونة  تفاعلاتها مع الذات والآخر في ضروب من اسئلة الوجد والفلسفة  والذوبان والحلول والحس...
 من هنا  وبهذه  العطور التي يمنحها الشعر  كجوهر من جواهر هذا الوجود يمكننا الولوج  الى عوالم شاعرة عربية اخذت القصيدة  محمل جد وعنوان فجيعة في هذا الزمن لتمضي برقة النظر وحساسية التعاطي  وصدق المشاعر وفوضى الفلسفة ولذة الوجد الصوفي الى جوهر الشعر باعتباره كتابة مخصوصة تأخذ صاحبها  الى الخسارات النادرة في شيء  من الزهد حيث يرى الشاعر ما يحدث بشكل مغاير.
الشاعرة الاماراتية خلود المعلا تخيرت هذا النهج الشعري الذي يقول بالمغامرة بعيدا عن الطرق المعبّدة والسهل والمألوف وفق رؤية واعية بحركة الشعر العربي والعالمي في خضم  اسئلة جمة منها بالاساس  سؤال  الحداثة الشعرية حيث القصيدة تكتب لحظتها بوعيها الفارق والمؤسس لنهج مفتوح على الاجناس والتعبيرات والمعارف.
 فبعد دواوينها الشعرية «هنا ضيعت الزمن» 1997 و«وحدك» و«هاء الغائب»2003 و«ربما هنا» 2008 صدرت لها قصائد مختارة بعنوان«دون أن أرتوي»  وذلك ضمن كتاب دبي الثقافي لعدد شهر ديسمبر 2011.
 هذه القصائد سافرت بنا الى  حد بعيد ضمن هذه التجربة الشعرية لشاعرة  تتقن فن الكتابة الشعرية الحديثة حيث القصيدة تلوين مغاير للتفاصيل لاجل اللحظة  التي تمنح الكائن لذّة الاشياء.
نقرأ في قصيدة «حرة تماما» بالصفحة 14 ما يلي :

أمارس شغفي بعرض السماء
هكذا                 
حرّة تماما
أنظر من نافذتي الضيقة
فأرى الكون كاملا
تنجلي أسراره الكبرى
هكذا
حرّة تماما
ألوّن تفاصيلي الصغيرة بلون الثلج
أتصالح مع اللحظة التي تدخلني لذّة الأشياء...

القصائد يغلب عليها الحلم والحلم من شيم الشعراء ذلك أنّ خلود المعلاّ جعلت من الشعر بوابة للقول بالحلم ومشتقاته.. أليس الشعر بالنهاية ضربا من الحلم الباذخ في كون تعصف به الأحداث والتداعيات؟.
لقد اختارت الشاعرة عوالم الحلم تقصدا للقيمة والصعود نحو الأعالي وتأصيلا للذات والكيان ومن هنا يكون للشعر شيء من الجدوى في ترميم ما تداعى من عطب  في الوجود وفي إعادة التشكيل للعناصر والتفاصيل وهذا جوهر الشعر وجدواه في عالم معطوب...
تقول الشاعرة خلود المعلاّ في قصيدة «لا جدوى» بالصفحة  51:

بقلبي أشكل الوجود
أرسم مسارات الغيم..
لتتحول بين كفي أنهارا أعرف مصابها
أدنو من البحر
....
ها أنا
أغمض عيني
أرسم حلما
أختار بلادا
أتذكر وجوه الذين تخلوّا عن الحياة بعزيمة
أراهم صاعدين
نحو قمم لا نعرفها
ليست لسواهم...

إنّ تجربة الشاعرة خلود المعلاّ فيها الكثير من الوفاء للكتابة بعيدا عن الافتعال وأوهام الصراخ ... فقصيدتها حيّز من التلوين المحفوف بالكينونة والذات حيث يبدأ العالم من هناك.. ولعل هذا الحشد من الأفعال بصيغة المضارع بضمير المتكلم يشي بالرغبة في الفعل بقصد تحريك الاشياء وإبراز الأنا الطافحة بأمل التغيير والحلم والفعل تجاه ما هو رمزي وجمالي وفي شتى المعاني وصولا الى الواقع.. هذا الواقع الذي صار أكثر سريالية في تداعياته المختلفة.
تقول الشاعرة خلود المحلا في قصيدة هكذا أحيا ..... بالصفحة 70:

أسكن القلوب التي تدخلها الشمس من سقفها
لأرى القلوب من مركزها
...
أحب الاشياء التي أبتدع اسماءها لأنها تشبهني
أتوق الى الروح التي تضيء العتمة لتصل اليّ
وأرى
في الوجود أشياء أفضل
حان لي أن أسعى اليها
أتحوّل الى حقول محبة في مواجهة العالم،
كلما أزلت العدم من حولي
وملأت حواءه بالصدق والأصدقاء..

هذه قصائد تستنطق الذات بحثا عن اللغة الصافية في ضرب من الشجن الخالص والبساطة المبكرة المحفوفة بكبرياء الشعر ومعانيه الفاتنة، كل ذلك يحدث بوعي فني وفق لغة مكثفة وصور محببة الى النفس.. إنه شعر يخاطب الوجدان والذات رغم ثقله الانساني من حيث الهموم والمعاناة.. انه الشعر في دلالته العميقة باعتباره الترجمان الشفاف بذكاء لكونه الدافع الى الابداع والابتكار والنظر المخصوص للذات وللآخرين.. والحلم عنوان باذخ من عناوين هذه الرحلة في الحياة وفي الشعر... وما الفاصل بين الحياة والشعر!!.
بوسعنا ان نقول ان قصائد خلود هي رحلة ساحرة لأجل الاقامة في الحلم وأيّة اقامة تلك...
في قصيدة «صعود» بالصفحة 133 نقرأ ما يلي:

للقمر
أقفز فوق الصمت
أصعد الظلمة المسكونة بالنجم
عند باب الوصل أجد القمر غفا
فأبقى هناك
معلقة في الحلم..

عن هذه التجربة يقول الكاتب سيف المرّي: (خلود المعلا شاعرة استثنائية بحق، تعيش قلق الشاعرة والرغبة الملحة عندها في الإنعتاق والتوحد مع الذات والطيران حتى ولو بنجاح واحد..).
وفي جانب آخر يقول عنها الأستاذ نواف يوسف: ( لقد دأبت خلود المعلا على كسر رتابة الشعرية المتفشية من خلال بديع متخيل على حافة الواقع بحس ومناخ صوفي) .
إننا اذن ازاء تجربة شعرية مفتوحة على مزيد الابداع والمغامرة في ارض القصائد التي لا تعرف السكون والاطمئنان حيث الشعر عمل دؤوب في المتخيل والمبتكر وقد راهنت الشاعرة خلود المعلا ضمن هذا النهج الشعري الصعب والجميل لأجل قصيدة باذخة وانيقة وصادقة...


حول الموقع

سام برس