بقلم / رفعت سيد أحمد
هي الفتنة، بكل معانيها وتوابعها المؤلمة، هي الغباء السياسي والحمق الاستراتيجي، إن تمكنت العصبية والعاطفة على عقل صناع القرار في أي من البلدين (مصر والسودان) بديلاً من الحكمة والوعي!!

نتحدث عن قضية "حلايب وشلاتين"، ذلك المثلث الحدودي بين مصر والسودان والمتنازع على ملكيته والسيادة عليه بين كلا البلدين، وهي القضية الموروثة أزمتها منذ زمن الاستعمار الإنكليزي لكلا البلدين، وهي القضية التي ما تكاد تختفي وتهدأ، إلا ويشعلها مجدداً تصريح سياسي هنا أو إعلام متفلت هناك؛ هذا ما جرى خلال الأيام الماضية، حين أطلت الفتنة برأسها مرة أخرى نتيجة زيارة قامت بها والدة أمير قطر (الشيخة موزا) للسودان، وأعقبتها تصريحات لمسؤولين سودانيين بأن حلايب وشلاتين سودانية، وأنهم يقومون الآن بجمع الوثائق التي تؤكد ذلك للتقدم بها إلى الهيئات الدولية والتحكيمية، وأن هذه التصريحات جاءت– كما يقول الإعلام المصري الرسمي– إرضاء لدولة قطر التي هي على خلاف جذري مع الدولة المصرية منذ ثورة 30/6/2013 والتي أطاحت بأصدقاء قطر في مصر (الإخوان المسلمين) وأدت إلى قطيعة ممتدة بين الدولتين، ولم يكن خروج الرئيس السيسي من اجتماع القمة العربية عند بدء أمير قطر بإلقاء كلمته إلا أحدث فصولها!!
"حلايب وشلاتين" إذاً أزمة بين بلدين شقيقين كانا تاريخياً هما الأقرب لبعضهما البعض من أي علاقات بين دولتين عربيتين أخريين، وهي أزمة، تظهر عندما يريد أحد الطرفين وبخاصة السوداني استخدامها في قضية أخرى داخل بلده أو لصالح طرف خارجي لديه مشكلات مع مصر مثل: قطر أو السعودية، أو إيران (سابقاً أيام حسني مبارك) كانت أزمة "حلايب وشلاتين" حاضرة للاستخدام والمكايدة السياسية، ولم يكن الهدف أبداً هو الوصول إلى حل حقيقى للأزمة.


على أية حال.. دعونا نحلل القضية، ونبحث في دلالاتها ومآلاتها المستقبلية:

أولاً: تحدثنا جغرافيا القضية أن منطقة حلايب وفقاً للموسوعات الدولية هي منطقة تقع على الطرف الأفريقي للبحر الأحمر مساحتها 20.580 كم2 (عشرون ألف وخمسمائة وثمانية كم2). توجد فيها ثلاث بلدات كبرى هي حلايب وأبو رماد وشلاتين، المنطقة تتبع مصر سياسياً وإدارياً بحكم الأمر الواقع. وهي اليوم أضحت محل نزاع حدودي بين مصر والسودان، وسكان هذا المثلث الحدودي يعودون في جذورهم إلى إثنية واحدة هي البجا وينتمون لقبائل تسمى بـ"البشاريين والحمدأواب والشنيتراب والعبابدة، وهي قبائل منتشرة شمال وجنوب خط عرض 22 الذي يفصل قانونياً وجغرافياً بين مصر والسودان!!

ومن الواقع الاقتصادي لهذا المثلث، تأتي أحياناً الأطماع والصراعات والتدخلات الأجنبية، فهو مليء بالثروات الطبيعية ومن بينها (الذهب)، والثروة السمكية وخصوبة الأرض الزراعية، التي تعتمد في ريها على الأمطار والمياه الجوفية، ورغم توفر هذه الثروات، يعاني أهلها من الفقر، الأمر الذي دفع مصر، كما يؤكد الخبراء الدوليون وخاصة بعد ثورة 30/6/2013 إلى التنبه أكثر للمنطقة، وربما بحكم احتمالات الخطر القادم منها مستقبلاً، فأولتها عناية خاصة على مستوى الخدمات النوعية والمشاريع الاقتصادية فقامت بإصدار قرار رسمي في 18/2/2014 بتحويل حلايب إلى مدينة تضم إدارياً قريتي أبو رماد ورأس حدربة، كما خصصت مبالغ مالية لتنفيذ مشاريع عدة لخدمة أهالي المنطقة، من ضمنها مشروع تصنيع وحدات متنقلة لإنتاج الثلج باستخدام الطاقة الشمسية ومشروع إنتاج المياه من الهواء عبر التكثيف باستخدام الطاقة الشمسية، ومشروع تحلية مياه البحر بالطاقة الشمسية. وأجرت انتخابات برلمانية في تلك المنطقة تمخض عنها نواب برلمانيون موجودون في المجلس النيابي، وأدت هذه المشاريع أيضاً إلى جذب وعبور آلاف السودانيين إلى المنطقة والإقامة فيها للاستفادة بالسكن وسبل الحياة التي تنعدم في بلادهم نتيجة الحروب والاستبداد والفساد، كما يقولون في كتاباتهم!! هذا هو الواقع اليوم. تزيد مساحته عن 20 ألف كم2 يقع رسمياً وجغرافياً وفقاً للقانون الدولي خلف خط عرض 22 شمالاً، أي داخل الحدود الإدارية والسياسية المصرية، إلا أن السودان تزعم أنه يتبعها إدارياً في مخالفة للجغرافيا والقانون بل وللتاريخ ذاته!!

ثانياً: إن حكومة السودان الحالية ذات الهوى الإخواني، والمصالح مع السعودية وقطر، تزعم أنها أشرفت إدارياً على هذا المثلث منذ 1902 حين أصدر وزير داخلية مصر وقتها قراراً بتبعية هذه المنطقة للسودان (إدارياً)، وأنه في العام 1958 قرر عبد الناصر رفض هذا الأمر عملياً فأرسل قواته إلى هناك وضمّ المنطقة إلى مصر، وتوالت بعدها الاحتجاجات والأزمات، تحت مزاعم سودانية أن مثلث حلايب وشلاتين يتبعها إدارياً وتاريخياً، متناسية أن السودان ذاته عام 1902 كان يتبع مصر أو كان هو ومصر دولة واحدة إدارياً وسياسياً، وبالتالي لا حجة لقرار فرعي لوزير داخلية وقتها يلغي أصول الحدود، جغرافياً، وأن الاستعمار الانكليزي حاول أن يفكك هذه الروابط التاريخية فلم يفلح.
ولقد ظلت الفتنة نائمة لسنوات وظلت حلايب وشلاتين مصرية منذ عقود طوال إلى أن أيقظها قرار الحكومة السودانية عام 1992، بإعطائها شركة كندية لحق التنقيب على النفط في المياه المقابلة لمثلث حلايب وشلاتين، فما كان من مصر إلا الاعتراض المباشر، فتراجعت الشركة الكندية وأجلت التنقيب إلى حين حلّ الخلاف بين الدولتين في ما يتصل بالملكية والسيادة على مثلث حلايب. ومن هنا بدأ الصراع يتجدد، والفتنة تستيقظ، وما أن تهدأ حتى تشتعل مجدداً، خاصة إذا كان هناك عامل خارجى لإشعالها.

ثالثاً: نعتقد اليوم، بعيداً عن تفاصيل الأزمة وتاريخيتها، أن من يشعلها، وربما يوصلها إلى حد الحرب المسلحة بين الدولتين هو الدور الخارجي، لأن الأمور لو سارت بشكل طبيعى لأمكن حلها بين الدولتين، عبر طرق دبلوماسية هادئة، والتاريخ شاهد على قدرة الدولتين على حل العديد من المشاكل بينهما تاريخياً، بالحوار والتفاوض الدبلوماسي المتزن؛ لكننا نؤكد أن العامل الخارجي هو الذي أيقظ الفتنة، وسمح لها أن تطل برأسها مجدداً على خلفية تنازع السيادة على مثلث حلايب وشلاتين بين مصر والسودان، وأحد أبرز مكونات هذا العامل الخارجي، هو الدور السعودي – وإن كان يتم في سرية وخفاء سواء مع أثيوبيا لتمويل بناء سد النهضة الذي سيدمر الزراعة المصرية تماماً، أو مع السودان لتمويل عمليات زراعة وتنمية مزعومة في منطقة حلايب وشلاتين، مقابل الاستخدام السعودي لما تبقى من جيش السودان الحربي فى الحرب على اليمن وحروب أخرى لا ناقة لشعب السودان المطحون فيها.. ولا جمل!! ثم يأتي الدور القطري وهو الأخبث والأخطر والذي يتم بعلانية وفجاجة اشتهرت بها قطر في سياستها الخارجية تجاه مصر منذ ثورة 30/6/2017 والتوتر المستمر بين "الإمارة" والدولة المصرية على خلفية الحملات الإعلامية القطرية وعبر مؤامرات قطر المستمرة لإسقاط النظام المصري من خلال الدعم المالي غير المحدود والجماعات الإرهابية في ليبيا على حدود مصر، أو من خلال دعم الإخوان والجماعات المسلحة فى سيناء، والمنطقة الغربية والآن عبر دعم السودان في فتح جبهة النزاع السياسي وربما المسلح مع مصر في الجنوب الصعب "منطقة حلايب وشلاتين".
 ويضاف للدور الخارجي العربي هذا، دور الولايات المتحدة والكيان الصهيوني (وإن كان بطرق سرية وغير مباشرة) والتصريحات المنفلتة، لبعض المسؤولين السودانيين بين حين وآخر، تشير إلى هذه الأدوار، وإن غطتها بغطاء سميك من الحقوق التاريخية المزعومة ومن السيادة على أراضيها، والطريف أن حكومة البشير هي من فرطت في عشرات القرى والمدن ومئات الألوف من الكيلومترات من السودان الكبير سواء في استقلال السودان الجنوبي أو في الحروب الدامية مع دارفور، أو غيرها من المناطق المهمة التى مزق خروجها السودان الكبير؛ والآن يدّعون السيادة على منطقة خارج حدودهم التاريخية (خط عرض 22)، فما الذي أيقظ هكذا الحس الوطني والسيادي فجأة لدى السيد البشير ونظامه!! وأين حمرة الخجل لدى حاكم فردي يحكم السودان منذ ثلاثين عاماً، كان وقت استلامها موحدة والآن تنقسم إلى ثلاث دويلات فقيرة، بائسة، ممزقة؟!

رابعاً : إن الهدف الاستراتيجي – في تصورنا – لإيقاظ الفتنة السياسية (والتي قد تتحول إلى فتنة مسلحة) في أزمة مثلث حلايب وشلاتين، هو تعمد نظام حكم البشير لفت أنظار السودانيين بعيداً عن مشاكلهم الداخلية الاقتصادية والسياسية، خاصة بعد أن تمزق السودان إلى دويلات عدة وإلى حروب مستعرة وفقر مدقع قياساً بثرواته الطبيعية الوافرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى الهدف هو إشغال الجيش المصري ودولته، بفتح جبهة جديدة أمامه لاستنزافه عسكرياً وإنهاك دولته اقتصادياً وسياسياً، وهي جبهة صعبة للغاية كما يعلم الخبراء، والذي يريد فتح هذه الجبهة، ليس فحسب نظام الحكم في السودان الذي دأب في السنوات الأخيرة على أن يكون أداة في أيدي من (يدفع) أو (يمول)؛ ولكن اللاعب الأكبر كما أشرنا من قبل هو اللاعب الإقليمي والدولي الخارجي، وإذا ما نجح – لا قدر الله – في مؤامرته، فإن الأضرار التي ستصيب مصر والسودان (الأخير بالمناسبة سيعاني أكثر بحكم الضعف البنيوي والتسليحي!!) ستكون فادحة، وستمثل جرحاً لا شفاء منه.
 لذا ..
نحن ندق نواقيس الخطر، وننبه إلى هذه القضية - الأزمة؛ حيث ينبغي رغم كل الصعاب والخلافات التاريخية بين صناع القرار في كلا البلدين، أن تحل بالحوار والمفاوضات، والدبلوماسية الهادئة بين البلدين مباشرة، وبعيداً عن عصا مجلس الأمن التي يلوح بها البعض من حمقى السياسة أو عصا الحرب المسلحة كما يلوح بها البعض من الإعلاميين المنفلتين، إن الحكمة، والاتزان السياسي، والفهم الحقيقي، للأهداف الخفية للقوى الإقليمية والدولية التي تشعل الفتنة كلما هدأت، تستدعي بالمقابل من عقلاء السياسة والإعلام في السودان ومصر، أن يعلَّوا، من راية الحوار؛ في هذه المحنة الجديدة، من محن الزمن العربي .. الرديء !! والله أعلم.
 
المصدر: الميادين نت

حول الموقع

سام برس