بقلم / فيصل جلول
الراجح أن إسرائيل ترسم للمقاومة اللبنانية على الحدود المشتركة، ما يشبه أجواء "صحراء التتار" ، فتحمل تشكليات المقاومة على الاستنفار الدائم، تحسباً لحرب تتحدث عنها وسائل الاعلام الإسرائيلية وكأنها واقعه للتو، لكن الحرب لا تأتي هذه المرة، وقد تأتي في المرة القادمة فلا تقع، ثم في المرة الثالثة وهكذا دواليك. بالانتظار تتعمد اغتيال قادة في المقاومة، وتسرب أنباء عن خطط حرب وشيكة وتفاصيل مناورات منفردة ومشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتشيع مخاوف من أسلحة فتاكة وصلت إلى "حزب الله" وتكشف النقاب عن أسماء بعض قادته.

تعتمد اسرائيل اسماء رمزية لعملياتها العسكرية  شأن "الجرف الصامد" و"تصفية الحساب" و " الرصاص المصبوب" و" السور الواقي"  و"عمود السحاب" و" الشتاء الساخن" و " حيرام"  و "سفينة نوح"  و"غضب الله" ..الخ بعض هذه الأسماء مستمد من الأدب شأن عملية "عناقيد الغضب" التي شنتها اسرائيل ضد المقاومة اللبنانية عام 1996، والاسم مستمد من رواية جون شتاينبك التي تدور حول أسرة ضربها الكساد الإقتصادي في عشرينات القرن الماضي واضطرت للرحيل من اوكلاهوما إلى كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية. شتاينبيك يقول أنه أراد التعبير عن غضبه إزاء الذين تسببوا  بالأزمة الإقتصادية المذكورة والتي أدت إلى معاناة  قاسية للفقراء الأميركيين.

بعيداً عن الرواية  إنتهت عملية "عناقيد الغضب" في جنوب لبنان إلى فشل ذريع، من معالمه حصول المقاومة على انجاز سياسي هو الأول من نوعه عبر "تفاهمات نيسان" التي اعترفت بها كطرف شرعي يقاوم من أجل تحرير أرضه وبشروط يجيزها القانون الدولي . وسنرى من بعد في عام 2000  خروج إسرائيل ليلاً من الأراضي اللبنانية، وبعد ست سنوات لن تتمكن من قهر المقاومة التي كانت تتحول بعد كل حرب صهيونية فاشلة إلى قطب محلي لا يمكن تجاوزه ومن ثم لاعب إقليمي متزايد الأهمية .

منذ 11 عاماً مضت على حرب تموز ــ يوليو 2006  يبدو أن الدولة العبرية تلعب مع المقاومة اللبنانية بطريقة قد لا تكون مطابقة لكنها ليست بعيدة عن أجواء رواية " صحراء التتار " للروائي الإيطالي الشهير دينو بوتزاتي الصادرة كما رواية "عناقيد الغضب" في أربعينات القرن الماضي.

تدور وقائع الرواية الإيطالية حول ملازم يتخرج للتو من الكلية الحربية ويعين في قلعة متقدمة في  أقاصي الوطن على الحدود مع "بلاد التتار" حيث  الصحراء الفاصلة بين البلدين. كان على بطل الرواية جيوفاني برودو أن ينتظر مستنفراً لسنوات طويلة عدواً لا يأتي وأن يعيش حالات خوف وانتظار عبثية يطرح خلالها أسئلة حول جدوى حياته ومرور الزمن. ثم يأتي العدو بعد انتظار طويل وبطيء حين يكون" برودو" المسن في طريقه إلى المستشفى بدافع المرض فيتعذر عليه الاشتراك في حرب لطالما تمنى أن يخوض غمارها .

الراجح أن إسرائيل ترسم للمقاومة اللبنانية على الحدود المشتركة، ما يشبه أجواء "صحراء التتار" ، فتحمل  تشكليات المقاومة على الاستنفار الدائم، تحسباً لحرب تتحدث عنها وسائل الاعلام الإسرائيلية وكأنها واقعه للتو، لكن الحرب لا تأتي هذه المرة، وقد تأتي في المرة القادمة فلا تقع، ثم في المرة الثالثة وهكذا دواليك. بالانتظار تتعمد اغتيال قادة في المقاومة، وتسرب أنباء عن خطط حرب وشيكة وتفاصيل مناورات منفردة ومشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتشيع مخاوف من أسلحة فتاكة وصلت إلى "حزب الله" وتكشف النقاب عن أسماء بعض قادته، وتنسق مع حلفائها الغربيين لفرض الحصار عليه وذلك كله يتم بطريقة مدروسة تنطوي على اختبار ردود فعله وتصنيفها نفسياً وعملياتياً على الأرض، ناهيك عن اختبار ردود فعل البيئة الحاضنة واستدراج ردود فعل شديدة السلبية من طرف فئات لبنانية كانت وما زالت  ترى أن " قوة لبنان في ضعفه "  و " تبعيته " وليس في مقاومته.

تبدو حرب الاستنزاف النفسي هذه وكأنها مكرسة لانهاك المقاومة واستهدافها بحرب مفاجئة في لحظة ارتباك وتعب أو في ظرف محلي وإقليمي أو دولي ملائم. في هذا الوقت ترد المقاومة بالوسائل النفسية المضادة وتختبر هي أيضاً ردود الفعل الإسرائيلية على استعدادتها ووسائلها القتالية وتقيس مدى فعالية خطب السيد حسن نصرالله وتأثيرها المعنوي على الرأي العام الإسرائيلي فيما يشبه إيقاع "البينغ بونغ" الممتد منذ نهاية حرب العام 2006  بين الطرفين.

لا يبدو سيناريو "صحراء التتار "  المفترض أفضل حالاً من "عناقيد الغضب".  ففي الحالتين تهمل الدولة العبرية حقيقة ثابتة مفادها أن المقاومة في لبنان لا تعيش حالة استنفار طارئة تقطع بواسطتها نمط حياتها فتعود إليه بعد الاستنفار، بل تعتبر انتظار العدو والاستعداد لقتاله جزءاً لا يتجزأ من نمط الحياة اليومية للمقاتلين ولقسم واسع من بيئتهم الحاضنة، وهي لا تختلف في ذلك عن حركات المقاومة الناجحة في مجابهة احتلال خارجي وعلى رأسها المقاومة الفييتنامية التي انتصرت على أكبر واهم قوتين عسكريتين في القرن العشرين في "ديان بيان فو" التي رسمت خط النهاية للاحتلال الفرنسي وفي سقوط "سايغون" المهين للاحتلال الأميركي .

هذا النوع من المقاومة لا يحدد مصير بلد وإنما مصير العالم في بعض الحالات، شأن المقاومة الروسية لغزو نابليون بونابرت لروسيا في القرن التاسع عشر الذي تسبب بانهيار القوة البونابرتية  في العام  1814  أي بعد عامين فقط من الغزو الفاشل , هذه القوة التي كادت ان تسيطر على أوروبا والعالم. وسيتكرر الأمر نفسه تقريبا في الحرب العالمية الثانية حين اجتاحت القوات النازية عام  الاراضي الروسية عام 1942وهلكت في "ستالين غراد".  ويمكن القول دون تردد أن مقاومة هذه المدينة لعبت دوراً حاسماً في تحديد مصير النازية التي ستنهار كما في حالة بونابرت بعد عامين من اندحار الغازي.

أغلب الظن أن لا مستقبلاً زاهر لـ سيناريو "صحراء التتار" في لبنان ، الذي شهد في حرب العام 2006 فشلاً ذريعاً للغزو الصهيوني ولربما يكون هذا الفشل حاسماً ليس فقط في مصير الصراع مع لبنان ومقاومته وانما في مصير الصراع العربي الاسرائيلي.. ولو بعد حين

المصدر : الميادين

حول الموقع

سام برس