بقلم/ محمد عمارة
كانت حياة الشيخ محمد الغزالي (1917 - 1996م) سلسلة من المعارك الفكرية لإحياء الأمة وتجديد دينها، ولكسر شوكة الاستبداد المالي والسياسي، وقطع الطريق على الغزو الثقافي، وذلك حتى تعود الريادة والقيادة للإسلام كما كانت قبل المأزق الحضاري الذي وقعنا فيه.

وكما كانت معركته الفكرية الأولى ضد الاستبداد المالي، فلقد كانت معركته الأخيرة دفاعا عن السنة النبوية ضد الذين يسعون للتفريط فيها، وضد أهل الجمود والتقليد لظواهر النصوص. ولقد قدم في هذا المقام دستورا متوازنا، قال فيه:

"إنه لا فقه بغير سنة، ولا سنة بغير فقه، وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة. إن السنة النبوية تواجه هجوما شديدا في هذه الأيام، وهو هجوم خالٍ من العلم ومن الإنصاف. وقد تألفت بعض جماعات شاذة تدعي الاكتفاء بالقرآن وحده، ولو تم لهذه الجماعات ما تريد لأضاعت القرآن والسنة جميعا، فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله.

إن محاربة السنة لو قامت على أسس علمية لوجب ألا يدرس التاريخ في بلد ما! إذ لماذا يُقبَل التاريخ على أنه علم وتهتم كل أمة به، مع أن طرق الإثبات فيه مساوية أو أقل من طرق الإثبات في الحديث النبوي؟! ولماذا تدرس سير العظماء وكلماتهم، وتعرض للتأسي والإعجاب، ويحرم من ذلك الحق رسل الله، وفي صدارتهم سيد أولئك الرسل مروءة وشرفا وبيانا وأدبا وجهادا وإخلاصا؟!

إن بعض البُله يتصور الأنبياء أبواقا لأمين الوحي، يرددون ما يلقيه إليهم، فإذا انصرف عنهم هبطوا إلى مستوى الدهماء وخبا نورهم! أي غفلة صغيرة في هذا التصور؟!

إن الله في كتابه؛ أحصى أسماء ثمانية عشر نبيا من الهداة الأوائل، ثم قال للهادي الخاتم: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (الأنعام 90)، فإذا برز للإنسانية إنسان كامل، التقت في سيرته شمائل النبوة كلها، وتفجرت الحكمة على لسانه كلمات جوامع، واستطاع - وهو الفرد المستوحش - أن يحشد من القوة ما يقمع كبرياء الجبابرة، ويكسر قيود الشعوب، ويوطئ الأكناف للحق المطارد! إذا يسر الله للإنسانية هذا الإنسان العابد المجاهد الناصح المربي، جاء غِرٌ ليقول: لا نأخذ منه ولا نسمع منه!! إن السنة ليست إلا الامتداد لسنا القرآن، والتفسير لمعناه، والتحقيق لأهدافه ووصاياه.

كذلك، فإن السنة النبوية لا تؤخذ من الذين يخلطون الصحيح بالسقيم، ولا من أصحاب التصور الفقهي الذين ليست لهم قدم راسخة في فقه القرآن - الذي هو الأصل - الذين يقطعون الأحاديث عن ملابساتها، ولا يضمون إليها ما ورد في موضوعها من روايات أخرى قد تؤيدها وقد تردها.

لقد بُذلت في تحقيق السنة جهود لم يبذل مثلها في الوقوف على تراث بشر، كي يعرف ما قاله الرسول حقا، والقرآن الكريم هو الإطار الذي تعمل الأحاديث في نطاقه لا تتعداه، ومن زعم أن السنة تقضي على الكتاب أو تنسخ أحكامه فهو مغرور!

إن حياة محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت تطبيقا عمليا لتوجيهات القرآن، كانت قرآنا حيا يغير الأرض ويصنع حضارة أخرى، ولولا هذه السنة لكان القرآن أشبه بالفلسفات النظرية الثابتة في علم الخيال، والأحكام التي توجد في الأحاديث الصحيحة هي مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن بتأييد إلهي، وبيان رباني "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" (النحل 44)، "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" (النساء 105)".

هكذا رسم الشيخ الغزالي معالم منهاج التعامل مع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

حول الموقع

سام برس