بقلم / جلال عارف

عد ما يقرب من نصف قرن على الرحيل، تأتي مئوية ميلاده (يناير 1918) فيبدو الرجل حاضراً كأبهى ما يكون الحضور، مجسداً لمشروع النهضة الذي صاغته الحركة الوطنية في مصر على مدى عقود طويلة، وممثلاً لحلم الملايين في مصر والوطن العربي في الاستقلال والتقدم والانضواء تحت علم العروبة.

رحل جمال عبد الناصر عن عالمنا قبل سنوات طويلة، ولكنه ما زال محوراً للصراع الدائر في مصر والعالم العربي، ترتفع صوره في المناسبات الوطنية بأيدي شباب جاء إلى الدنيا بعد رحيله بسنوات طويلة لا يطلبون استعادة الماضي، لكنهم يقولون إنهم قادرون على أن يحلموا لأوطانهم بكل خير، وأن يحققوا ما حلموا به، ويؤكدون أن تضحيات أجيال مضت لم تذهب هباء، وأن ميراث الحركة الوطنية في مصر الذي كان عبد الناصر خير من جسده سيظل حاضراً مع أجيال جديدة تستكمل المسيرة، وأن مشروع النهضة الذي قاده عبد الناصر لا بد أن يستكمل آخذاً في الاعتبار كل مستجدات العصر.


ولعل المشهد في مصر خلال السنوات الصعبة في ظل ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013 يعكس صورة من صراع ممتد حول مشروع وطني لم يكتمل. كانت صورة عبد الناصر في الميادين تعني الانحياز للقرار الوطني المستقل، وللدولة الوطنية الراسخة، وللعدالة الاجتماعية، التي اغتالتها سنوات الفساد، وللانتماء العربي الذي تستعيد به الأمة العربية دور مصر القيادي المفتقد، وللحداثة التي تلحقنا بالعصر.

وعلى الجانب الآخر كان تحالف الإخوان والفساد المدعوم من قوى خارجية يقاتل تحت شعار زائف هو «القطيعة مع يوليو» على أساس الزعم بأنها تمثل ما يسمونه «حكم العسكر»! وبصرف النظر عن تعبير «العسكر» الذي لم تعرفه مصر في عصرها الحديث، ومنذ أن أصبح جيشها الوطني هو درعها الواقية، الذي يمثل جزءاً أساسياً من الحركة الوطنية منذ ثورة عرابي حتى الآن.

بصرف النظر عن ذلك فقد كان عداء هذا التحالف لثورة يوليو هو إعلان بـ«القطيعة» مع كل ما هو وطني والعداء لكل شعب مصر، الذي لم يتحرك في يناير أو في 30 يونيو إلا لاستعادة كل ما هو حقيقي وأساسي، في المشروع الوطني الذي بدأ مع يوليو بقيادة جمال عبد الناصر.

لم يفهم هؤلاء الذين رفعواـ وما زالوا يرفعون ـ لافتة «القطيعة مع يوليو» والعداء لمشروعها الوطني والقومي أن عبد الناصر لم «يخترع» هذا المشروع وإنما جاء به من تجربة طويلة للحركة الوطنية في مصر منذ ثورة عرابي في نهاية القرن التاسع عشر، ومروراً بثورة 1919 تحت قيادة سعد زغلول، ولم يكن الاستقلال الوطني مطلباً للعسكر، بل كان هدفاً أساسياً ضحت من أجله أجيال حتى حققته ثورة يوليو، ولم يكن «التعليم المجاني» اختراعاً من الجيش، بل كان حقاً طالب به طه حسين، وجاءت الثورة لتجعله أساساً من أسس النهضة، ولتملك مصر أعظم طبقة وسطى في تاريخها.

وهي التي قادت حركة التصنيع الهائلة، وهي التي بدأت في تحديث الدولة، هي التي صمدت في وجه ضربة يونيو 1967 وبنت جيش العبور العظيم من مليون مقاتل خاضوا أول حرب إلكترونية في التاريخ، وهزموا الغرور الإسرائيلي وحطموا أسطورة تفوقه.

ولم يكن العدل الاجتماعي جزءاً من «أجندة» خارجية، بل كان ضرورة حياة في بلد عانت فيه الأغلبية العظمى من الشعب ظلماً لا يطاق، بينما الحكومات المتعاقبة تواصل الوعود بأن تحارب ثالوث الجهل والفقر والمرض، تاركة ما أطلق عليه «مجتمع النصف في المائة» يستولي على كل شيء، بما في ذلك الأحزاب الأساسية والحكومات التي تشكلها!

ولم يكن التأكيد على الدولة الوطنية المدنية في المشروع الناصري إلا امتداداً لميراث نضال الحركة الوطنية المصرية، ومن هنا كان الصدام حتمياً مع جماعة الإخوان وفي هذا المجال قدمت التجربة الناصرية نموذجاً ملهماً في التعامل بحسم مع الجماعة الإرهابية ومحاربة أفكارها الضالة واستئصال وجودها بالمواجهة الشاملة، التي امتدت من الأمن إلى الثقافة إلى تحصين المجتمع بالعدل والتعليم.

وفي الوقت نفسه الذي تضاعف فيه عدد المساجد في مصر في عهد عبد الناصر وأنشئت إذاعة القرآن الكريم وتم تحديث جامعة الأزهر لتواكب العصر، وقدمت مصر نموذجاً للإسلام المعتدل، مع تأكيد حق المواطنة ورعاية الكنيسة القبطية ورفع مكانتها في العالم أجمع.

وأيضاً لم تكن هوية مصر شيئاً يتم تبديله بقرار وإنما كانت حكم التاريخ والجغرافيا وميراث شعبها الذي استوعب الحضارات المختلفة، لأنه الصانع الأول لها، والذي عرف كيف يؤكد هويته الوطنية من خلال انتمائه للعروبة وللإسلام ولأفريقيا، ثم انفتاحه على الإنسانية جمعاء.

وبعد خمسين عاماً من الرحيل، وفي ذكرى ميلاده المئوية، يظل عبد الناصر عنواناً رئيسياً لمشروع النهضة والتحديث في مصر والوطن العربي، ويظل هدفاً لأعداء الأمة من الإخوان والعملاء وكارهي العروبة والرافضين لنهوض مصر أو العرب، يواصلون حملات الكراهية فتدرك الملايين أن طريقه كان صحيحاً وأن من يستهدفونه لا يستهدفون شخصه فقط، وإنما يخافون حضوره وما يعنيه من انحياز للوطن وللعروبة وللعدل والاستقلال.

لم يدع الرجل يوماً العصمة اجتهد وأصاب وأخطأ، وانتصر وانهزم، لكنه لم يفرط ولم يستسلم، ولم يكن يوماً إلا ابناً وفياً لمصر وللعروبة.. سلاماً عليه في ذكراه.

*نقلاً عن البيان

حول الموقع

سام برس