بقلم/ عقيل سعيد محفوض
كشفت الأزمةُ السورية عن مسارات مُتعاكِسة للعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، تفاهمٌ وتخاصُم؛ رسمٌ للحدود والخرائط، وعملٌ متواصِل لتجاوز ما يتم الاتفاق عليه. موسكو وواشنطن لا يمكنهما أن تتّفقا على طول الخط، لكن اختلافهما لم يوصلهما إلى مواجهة مباشرة. مأزق من الصعب تجاوزه، مع كل المخاطر الُملازِمة له.

تُظهِرُ الولايات المتحدة مؤشّرات مُتزايدة على استعدادها لرفع سقف المواجهة، وهي تفعل ذلك على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي، وخاصة ضد عملية سوتشي؛ وتتحيَّن الفُرَص المناسبة لفعل ذلك في الميدان، بشكل مباشر لجهة التأكيد على اعتبار نهر الفرات "خطاً أحمر"، أمام الجيش السوري وحلفائه؛ وبشكل غير مباشر، ومن خلال حلفائها، والأذرع المرتبطة بها، كردياً وعربياً وإسلاموياً.

الأوضاع الداخلية في كل من روسيا والولايات المتحدة، تدفعهما لتحقيق إنجاز في سوريا، موسكو تريده سريعاً وواشنطن تريده لموسكو بطيئاً ومُكلفاً؛ فيما تحاول موسكو تضييق خيارات واشنطن، من خلال التسريع في إيقاع الحلّ السياسي وفقاً لعمليتيّ أستانة وسوتشي.

الاتفاق صعب، ذلك أن ترامب مُتَّهم بأنه وصل إلى البيت الأبيض بمساعدة من روسيا، ومُتَّهَم أيضاً بالتقاعُس تجاهها، ويتعرّض لضغوط من قِبَل "الدولة العميقة" واللوبي اليهودي وإسرائيل ودول غربية وعربية للعمل على تفكيك "قَوَامَة" روسيا في إدارة الأزمة السورية، و"احتواء" إيران في سوريا والمنطقة.

بالمقابل، بوتين يحتاج إلى تحويل الإنجاز العسكري إلى إنجاز سياسي، وإلى "اعتراف" عالمي، أميركي على نحو خاص، بمكانة ودور روسيا في السياسة الدولية، وهذا يتطلّب من روسيا إدارة دقيقة للتوازنات والمصالح، وهو ما يُفسّر "قبولها" أو "تفهّمها" لأولويات واشنطن "شرق الفرات"، ثم "غرب الفرات". لكن روسيا تعلم أن أي انزلاق في مُجاراة واشنطن، أو تراجُع أمامها، يمكن أن يهدّد ما تم إنجازه، أن تُسلِّم بالسياسة والحيلة ما كانت انتزعته بالقوّة، و"كأنك يا أبا زيد ما غزيت".

لن تقف واشنطن على "شرق الفرات"، ولا أنقرة على بعض إدلب وريف حلب، ولا إسرائيل على "منطقة عازِلة" في الجنوب، كما أن روسيا وإيران لا تستطيعان القبول بخرائط سيطرة داخل سوريا يمكن أن تهدّد طبيعة الدولة فيها، هذا يعني أن الصراع هو على سوريا ككل، وهو ما يُفسّر حجم وحِدَّة السِجال حول مؤتمر سوتشي مثلاً، مع كل المحاولات الروسية لتقديم ضمانات بأنه لا يمثّل قطيعة مع عملية جنيف، بل "يمكنه أن يساعد فعلاً في خلق ظروف لإجراء مفاوضات ناجحة في جنيف". (تصريحات لافروف 10-1-2018).

محاولة استهداف قاعدتيّ حميميم وطرطوس بطائرات مُسيرّة، هي المُعادِل العسكري والأمني لاستهداف عملية سوتشي، ومثال على حجم الرهانات الأميركية المتداخلة والمعقّدة في الأزمة السورية، وعلى ما يمكن لـ "المسارات المتوازية" أن تفعل. يقول الهجوم إن القاعدتين اللتين وصفهما الرئيس بوتين بـ "القلعتين" المتقدّمتين لأمن روسيا، (تصريحات 28-12-2017)، يمكن ضربهما بأيسر وأسهل السُبل تقنياً وتكتيكياً، وأن كل ما حقّقته روسيا في سوريا هو تحت التهديد، وأن بإمكان الولايات المتحدة أن تفعل الكثير بهذا الصدَد، بما في ذلك استخدام تركيا نفسها، التي تواطأت ضد شريكها في عملية سوتشي.

ومن الواضح أن ثمة تناغماً عميقاً بين واشنطن وأنقرة في الكثير من الأمور، ما يُفسِّر كيف أن الاستخبارات التركية "ساهمت" في استهداف القاعدتين، ولا يُغيّر من ذلك نفي الرئيس بوتين أن تكون تركيا قد اشتركت في العملية، (تصريحات 11-1-2018)، ذلك أن ملفوظ النفي ينطوي على دلالة مضمونية واحدة وهي إثبات المسؤولية، بالتنسيق أو بالتغافل، إن لم يكن بالاشتراك المباشر! علماً أن وزارة الدفاع الروسية وجّهت رسالتين إلى رئيس الأركان آكار هولوسي ورئيس الاستخبارات هاكان فيدان تطالبان أنقرة "بضرورة تنفيذ التزاماتها في مجال ضمان مُراعاة نظام وقف العمليات القتالية من جانب الفصائل المسلّحة" لتفادي وقوع هجمات من هذا النوع. (صحيفة النجم الأحمر، 10-1-2018).

تمضي واشنطن في تعزيز سيطرتها "شرق الفرات"، وتحثّ الخُطى لعدّه "اقليماً" بالمعنى العسكري والسياسي، واتّخذت إجراءات لإعطائه بُعداً دبلوماسياً وتمثيلياً، أميركياً في مرحلة أولى؛ وثمة مؤشّرات مُتزايدة على اهتمامها بجعله قاعدة انطلاق لسياساتها بما يتجاوز سوريا نفسها إلى دائرة اقليمية ودولية أوسع. فيما تواصل موسكو انتقاداتها الحادّة للوجود الأميركي "شرق الفرات" بوصفه "غير شرعي"، ومُعرقل للحل، ويُمثّل مظلّة للجماعات المسلّحة، بما في ذلك تنظيم "داعش". وتبدو موسكو أكثر قرباً من دمشق في مُقاربتها لموقف المعارضة المدعومة أميركياً وحتى تركياً، وقد عبّر الوزير لافروف -ببلاغة لافِتة- عن موقف حاسِم بهذا الخصوص، قائلاً: "إن ذلك الجزء من المعارضة السورية الذي يطرح دوماً شروطاً مُسبقة، بما في ذلك تغيير النظام، ستتم تربيته من جانب مَن يتحكّم به". (تصريحات 10-1-2018). ولابد من أن لافروف يعني "ضرورة أن تتم تربيته".

تأخذ موسكو الاعتراضات وحتى الاستهدافات الأميركية بوصفها "إشارات وتنبيهات" أكثر منها تهديدات ومخاطر بمواجهة جدّية أو وشيكة؛ ولأن وجودها في سوريا هو مسألة "فوق حيوية" لأمنها القومي، فإن التهديد يُعزّز رهاناتها، ويجعلها أكثر ثباتاً في موقفها، وأكثر قُرباً من دمشق.

المصدر: الميادين

حول الموقع

سام برس