بقلم / حياة الحويك عطية
غير أن هذا الفرز هو بحد ذاته فرز للدول التي ترعى كلاً من هذه الفصائل، وتعامل ناري- سياسي معها. قطر السعودية، الإمارات و تركيا. ومن ناحية أوسع فرز دولي لمحاور النظام العالمي الجديد الذي أعلن الحمل به عام 2007 وأعلنت ولادته الرسمية عام 2018. وستكرس تسميته عبر المعارك الانتخابية المنتشرة من الصين إلى روسيا إلى كوبا إلى فنزويلا .... وغداً إلى سوريا.

هل رسم الجيش السوري جيوب الغوطة جغرافياً؟ ربما من حيث المنطق العسكري. ولكنها في الواقع قسمت سياسياً.

"جيش الإسلام" في مدينة دوما ومحيطها الضيّق، "فيلق الرحمن" و"جبهة النصرة" في القسم الجنوبي، في عربين وجوارها، مَن تبقّى من "حركة أحرار الشام" في حرستا.

خلال المعارك سمعنا الكثير عن مصير حلب. نظرة إلى الوراء: تحرير حلب عنى عودتها إلى الدولة، انطلاق مشاريع إعادة إعمارها، إجلاء قوافل مسلّحين غير مرغوب فيهم منها و ...تأهيل جيش الإسلام لدخول أستانا. ومن ثم مناطق خفْض التصعيد.

في الغوطة يشعر جيش الإسلام بأنه مُحاصَر ومُجرّد من حلفاء غالباً ما كانوا أخصاماً دارت بينه وبينهم معارك قاسية وما زال يحتجز بعضهم. فيما يشعر كل من الفصائل الأخرى بأنه معزول، مُتّهم بالإرهاب رسمياً وعالمياً، لا يستطيع إلا الرحيل أو الاستسلام. عملية فرز تسجّل نجاحاً للجيش السوري وللحليف الروسي الذي يحتاج إلى هذا الإنجاز عشيّة الانتخابات.

غير أن هذا الفرز هو بحد ذاته فرز للدول التي ترعى كلاً من هذه الفصائل، وتعامل ناري- سياسي معها. قطر السعودية، الإمارات و تركيا. ومن ناحية أوسع فرز دولي لمحاور النظام العالمي الجديد الذي أعلن الحمل به عام 2007 وأعلنت ولادته الرسمية عام 2018. وستكرس تسميته عبر المعارك الانتخابية المنتشرة من الصين إلى روسيا إلى كوبا إلى فنزويلا .... وغداً إلى سوريا.

على بطاقة هويته تسجل العلامات الفارقة. هو لا يشبه أباه المرحوم نظام 1991 ولا يشبه جدّه نظام 1948. هو نظام أصرّ على العودة إلى رأسماليته الوطنية، وعلى تعلّم البراغماتية الأميركية، والمحافظة على خصوصيته الثقافية. أصرّ على عدم الانقلاب على الماضي ولكن على عدم وضعه في المجمدة. نحت تطويره بجرأة وثبات مؤكداً أن المصالح الوطنية تأتي أولاً. وعلى أساسها تبُنى المحاور الجديدة التي تدمج الاقتصاد بالدفاع بالسياسة. من تشنغهاي إلى البريكس إلى منظمة دول أميركا الجنوبية.

بالمقابل تقف الولايات المتحدة مترنّحة بين استراتيجية دونالد ترامب القائمة على العودة إلى الحمائية الانعزالية لإنقاذ الاقتصاد الأميركي وبالتالي إنقاذ موقع البلاد كقوة عظمى. وبين خصوم ترامب الذين يخشون من أن تؤدّي هذه السياسة إلى خسارة الحلفاء بعد الأعداء. كما تصطدم بالبنتاغون الذي يهمه الحفاظ على انتشاره العسكري في العالم ضمانة لمصالحه الاقتصادية والعسكرية . انتشار تنبّأ المؤرّخ الاستراتيجي بول كنيدي أنه سيكون سبب سقوط الامبراطوية، وذلك في كتابه الشهير: "صعود وسقوط الامبراطورية". خاصة مع ما يبرهن عليه من تراجع القوة الإنتاجية القومية في الولايات المتحدة.

في هذا السياق نفهم ردّة فعل أوروبا. الكرة الضخمة التي يتقاذفها العالمان أو العوالم وتحار إلى أي محور تنتمي. فلا هذا ولا ذاك يؤمنان مصالحها كما تريد. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية انقسمت القارة العجوز بين معسكر غربي متعلّق بذيل التنورة الأميركية ( بحسب تعبير جان بيير شفينمان) ومعسكر شرقي يعيش تحت الأبط السوفياتي. في المعسكر الغربي كان هناك المعارضون للنفوذ السوفياتي وتمكّنوا من الخلاص والتقاط التنورة الأميركية بتشبّث محموم . وفي المعسكر الغربي كان هناك أنصار الاستقلالية الذين ناضلوا ، سواء في صفوف اليمين القومي أو في صفوف اليسار للتحرّر من الهيمنة ، لكنهم فشلوا في محطات كبرى، لعلّ أهمها حرب احتلال العراق. وبسقوط بغداد سقط المحور الذي تشكّل من موسكو بوتين ، برلين شرودر، وباريس شيراك. الثاني أسقط انتخابياً فأدار الأول وجهه نحو الشرق وركع الثالث أمام الولايات المتحدة مُقدّماً أول قربان القرار 1559. منذها استقرّت أطلسة الاستعمار القديم ، وبدأت الحرب على سوريا.

باريس عملت سمسار القرار الدولي لدى واشنطن، ومن ثم كلّفت بأن تكون سمسار استيعاب بشّار الأسد. نجحت في الأول، فشلت في الثاني فتورّطت في الحرب أمنياً وسياسياً وإعلامياً حتى النخاع. وقبضت ثمن أدوارها المختلفة من قطر والسعودية. سائر الدول المتأطلسة اضطلعت كل بدورها وقبضت كل أجرها من دول الخليج نفسها.

اعتقد القطري "الذي تتلخّص قيمته في ثروته" أنه سيعوّض مدفوعاته بمد أنابيب الغاز عبر سوريا إلى أوروبا وإنهاء التهديد الروسي في مجال الطاقة. السعودي أوهم بأنه سيحكم سوريا الطبيعية كلها بشطب ( س) وإبقاء (س) واحدة تختزل كل الحروف، خاصة بعد تركيع مصر وتدمير اليمن.

اليوم يلتقي كل هؤلاء في مساحة صغيرة إسمها الغوطة الشرقية. وتدور الحرب العالمية الثالثة فوق رؤوس أهل دمشق. يقاتل الجيش السوري لأجل بقاء سوريا ويقاتل جميع الآخرين لأجل تحقيق مصالحهم. تبكي فرنسا على المسلحين الإسلامويين الإرهابيين بمَن فيهم النصرة، وكأنها ليست "الإبنة الكبرى للكنيسة الكاثوليكية" وكأنهم ليسوا من فجّر مسرح كاتالان في وسط باريس. بل إن فرانسوا هولاند، الرئيس الذي سجّل أدنى مستوى انحدار شعبية في تاريخ فرنسا، يخرج عن صمته ويقيم لطمية لا تستثني أياً من هؤلاء. ترِّوس بها صحيفة لوموند عددها متجاوزة الحدث الصيني التاريخي. هو يسدّد حسابات، الصحيفة صوت الأطلسي وخادمة السياسة الإسرائيلية، والاستعمار القديم لأنه يخسر في الغوطة رهاناته. التي يحاول أن يعوّضها من صناديق دول الخليج.

*كاتبة وباحثة، خبيرة في الإعلام السياسي

المصدر: الميادين

حول الموقع

سام برس