بقلم/ فيصل جلول
استبطن اللبنانيون التعايش مع الفساد حتى صار أمراً عادياً بنظر الراشي والمُرتشي في الآن معاً. ولن يصاب مواطن مُقيم بالدهشة إن طلب منه موظف الأحوال الشخصية، مبلغاً من المال لقاء إصدار إخراج قيد، بل يسود اتفاق ضمني بين المعنيين حول قيمة الرشوة التي ينبغي أن تُدفع في مثل هذه الحالات. وترتفع قيمة الرشوة عندما يتّصل الأمر بتخليص البضائع أو استقدام الخادمات الأجنبيات. ولا أغامر بالقول إن غالبية الناس يتحدّثون في سهراتهم ومناسباتهم الاجتماعية، عن المُرتشي بوصفه ذكياً "أحسن التدبير" إلى حد شراء مبنى في زمن قصير أو سيارة فارهة أو عقارات.. الخ

درج بعض اللبنانيين على ترديد عبارات باتت مألوفة في المناسبات الانتخابية. العبارة الأشهر تفيد بأن المرشّح الفلاني قوي جداً، ويمكنه أن يحرّر محكوماً من حبل المشنقة. بكلام آخر يمكن للمرشّح أن يتجاوز القانون إلى أقصى الحدود، أي تعطيل قانون عقوبة الإعدام على سبيل المثال.

المرشّح نفسه يتقدّم من ناخبيه بأشكال القوة المختلفة المستمدة من قدرته على تجاوز القانون. هو قادر على استحصال رخص سلاح لمن لا يستحقها قانوناً، وقادر على توفير وظائف لأنصاره من دون منافسة يفرضها القانون، وعلى وضع اليد على مساحة من الشاطىء واستثمارها بطريقة غير شرعية. ويستطيع أيضاً وأيضاً تغطية مخالفات البناء ومن بعد تسويتها بالتحايل على القوانين. وهذا غيضٌ من فيض.

ينتهك النائب القوانين التي يُنتخَب مبدئياَ من أجل احترامها والحفاظ عليها، تماماً كما لو أن شرطياً من مفرزة المواصلات ينتهك قانون السير أو ناطوراً يسرق المباني التي يحرسها، مع فارِق مهم هو أن الشرطي لا يحظى بحصانة قانونية ويمكن ملاحقته على المخالفة في حين تصعب مقاضاة النائب المُحصّن دستورياً.

لا يغتنم المُقترعون في لبنان المناسبات الانتخابية لتغيير هذا الواقع. فقد تعايشوا مع هذا الطراز من التمثيل "الديمقراطي" المُضحِك مُتذرّعين بمرر "نحتاج إلى واسطة يوفّرها النائب لقضاء حاجات مختلفة". والواسطة لمن لا يعرف من غير اللبنانيين، هي التدخّل لدى أجهزة الدولة من أجل تعيينات وظيفية أو الحصول على وثائق رسمية أو ما يشبه ذلك، بالرشوة أو بتبادل الخدمات.

استبطن اللبنانيون التعايش مع الفساد حتى صار أمراً عادياً بنظر الراشي والمُرتشي في الآن معاً. ولن يصاب مواطن مُقيم بالدهشة إن طلب منه موظف الأحوال الشخصية، مبلغاً من المال لقاء إصدار إخراج قيد، بل يسود اتفاق ضمني بين المعنيين حول قيمة الرشوة التي ينبغي أن تُدفع في مثل هذه الحالات. وترتفع قيمة الرشوة عندما يتّصل الأمر بتخليص البضائع أو استقدام الخادمات الأجنبيات. ولا أغامر بالقول إن غالبية الناس يتحدّثون في سهراتهم ومناسباتهم الاجتماعية، عن المُرتشي بوصفه ذكياً "أحسن التدبير" إلى حد شراء مبنى في زمن قصير أو سيارة فارهة أو عقارات.. الخ

ثمة من يرى أن ثقافة الرشوة المُعمّمة هي المسؤولة عن شراء الأصوات بأسعار باهظة في بعض الدوائر الانتخابية الحسّاسة، حيث يصل ثمن الصوت الواحد أحياناً إلى أكثر من ألف دولار، ما يغري أسرة من عشرة أنفار بالحصول على عشرة آلاف دولار في يوم واحد، وبالتالي تغطية نفقات مُلحّة أو حاجات طال انتظارها.

وإذ يسأل بائع صوته عن هذا الفعل المُشين يردّد "شعرة من خنزير" خير منه، أي أن النائب في المجلس التشريعي سيتحوّل بنظر المُرتشي إلى لصٍ ثريّ وبالتالي لا حاجة لتعذيب الضمير إزاء الرشوة التي تلقاها، ذلك أن "السارق من السارق كالوارث عن أبيه" بحسب حكمة شعبية ساخِرة.

الفساد اليومي لا يقتصر على منصب تمثيلي من دون غيره. فالروايات المُتواتِرة تفيد أن زعيماً لبنانياً طلب من أحد وزراء كتلته حصّة النصف من الأموال التي حصّلها عبر منصبه الرسمي، وقد استجاب الوزير المعني إلى ما طُلِبَ منه، وربما انصاع آخرون مثله من دون تعذيب ضمير أو انتفاضة شخصية أو حتى التظاهُر بالغضب.

من حُسن الحظ أن تعايُش اللبنانيين مع "ثقافة" الفساد الشائِعة في بلدهم، إلى حد استبطانها واعتبارها من العاديات، لا يشمل كل ممثلي الشعب وكل الوزراء والموظفين، لكن ذوي المناصب غير المُلطّخة بالرشوة و"الكومسيون"، لا يُشكّلون كتلة قادرة على تغيير المعادلات السياسية والطائفية التي تحمي الفاسدين وتقتلع هذه "الثقافة" الشنيعة من الدوائر الرسمية أو الخاصة المُلحَقة بها.. بل يمكن القول إن فضح الفساد والصفقات المشبوهة، لا يصل إلى القضاء إلا في حالات تمسّ المُستضعَفين وموظفي أدنى الهرم. ولنا في ذلك مثال كتاب شهير أصدره في تسعينات القرن الماضي النائب الناصري السابق نجاح واكيم بعنوان "الأيادي السود" وفيه تفاصيل صفقات ورشاوى بمئات الملايين من الدولارات. لكن أحداً لم يحمل معلومات الكتاب إلى القضاء ولا حتى مؤلّفه وبالتالي محاسبة المعنيين ناهيك، عن أن أحداً لم يتقدّم بشكوى قدح وذم ضد النائب واكيم لمُقاضاته على نشر تفاصيل قيل إنها غير صحيحة أو مزوّرة.

ينتخب الناس في الديمقراطيات المُعمّرة من أجل التغيير، وبالتالي رسم مستقبل أفضل لمجتمعاتهم. أما في لبنان فهم يقترعون لبقاء هذا "البيت السياسي" أو ذاك مفتوحاً و"حتى لا يُقفَل". يقترعون لأسباب طائفية وعائلية ومناطقية. وعليه تنتفي الحاجة إلى نقاشات وطنية حول مشاريع قوانين تعد بالتغيير. ولا يدور جدل حول استراتيجية الحُكم خلال الولاية البرلمانية. ولعلّ النقاش الأبرز يتصل غالباً بقضايا وطنية مصيرية كأن يزعم هذا المرشّح المُنافِق أو ذاك بأنه سيعمل إذا ما انُتخِب من أجل مصادرة سلاح المقاومة اللبنانية التي تردع العدو الصهيوني، وآخر يدّعي بأنه مرشّح التغيير في معرض وراثته لمقعد إبيه...

إن التوريث "الديمقراطي" على الطريقة اللبنانية يعني وجوب الحفاظ على "هذا البيت" السياسي أو ذاك، في ظلّ نظام هو خليط من امتيازات أُسَرية في بلد جمهوري. والمُضحِك في هذه الحال أن زعماء يرثون ويورّثون مناصبهم منذ عشرات السنين لكنهم ينتقدون بجدية، يُحسَدون عليها، توريث الحُكم في البلدان العربية الأخرى.

على الرغم من كون الانتخابات التشريعية في لبنان أمّ المناسبات وأكثرها أهمية، لكون المجلس المُنتخَب سيختار بدوره رئيساً للجمهورية ويمنح الثقة للحكومة، فإنه يصعب الرهان على تغيير بالغ الأهمية في انتخابات أيار/ مايو المقبل. ذلك أن "الخبراء" المحليين يتحدّثون منذ الآن عن ضمان فوز أكثر من 100 نائب قبل الاقتراع من أصل 128 نائباً. وربما يُتيح التنافُس لـ"البيوت السياسية" التهام القسم الأكبر من المقاعد الباقية، فينحصر الخرق بقبضة محتملة من "ممثّلي الشعب" الذين سرعان ما سيتكيّفون مع شروط التمثيل السائِدة، إلى حد أنهم قد يُعبّرون عن ندمهم على اليوم الذي تجرّأوا فيه على الحديث عن تغيير "ديمقراطية البيوت السياسية الطائفية " الوارِثة والمُوَرِّثة منذ تأسيس الكيان اللبناني.

حول الموقع

سام برس