بقلم / فيصل جلول
الواضح أن الانسحاب الأميركي من سوريا يحمل أنباء سيّئة للغاية إلى حلفاء واشنطن المحليين والغربيين عموماً، فهو لا يُتيح لهم الوقت الكافي لإعادة التموضع ولرسم استراتيجيات أخرى. أما مهلة الشهور التي وردت في كلام الناطق باسم الخارجية الأميركية فلا تُعدّل الشيء الكثير في ما صار من الممكن وصفه بـ " فييتنام "أميركية جديدة بخاصة وغربية عموماً في بلاد الشام. "فييتنام" جديدة تحمل إلى صدارة المسرح في الشرق الأوسط على التوالي روسيا وتركيا وإيران، هذا الثلاثي الذي لن يكون بوسع أحد تفاديه من الآن فصاعداً في كل ما يتعلق بشؤون المنطقة ورسم موازين القوى فيها ، هذا إذا ما أردنا استبعاد القضايا الأخرى في العالم.

لا تكفّ الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب عن الرقص البهلواني بإيقاع مُتسارع. قبل يومين من الاقتراع الرئاسي في روسيا أكّد ترامب أنه لن يتصل بالرئيس بوتين مُهنئاً بفوزه المُنتظر ولكنه اتصل بعد يومين مُبارِكاً لصاحب الكرملين بولاية جديدة.

توعّد ترامب الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتحدّث عن إزالة كوريا الشمالية عن خارطة العالم، ثم قِبَلَ بالتفاوض معه مباشرة، مواكباً الاتصالات الكورية الجنوبية مع "بيونغ يانغ" التي ما كان يمكن أن تتم من دون موافقة أميركية.

تحدّث وزير خارجيته ريكس تليرسون في مطلع العام الجاري عن استراتيجية أميركية في سوريا للسنوات القادمة عمادها وجود أميركي دائم لاستباق عودة داعش، وتوفير الظروف المُلائمة لقلب الرئيس بشّار الأسد. لم تصمد هذه الاستراتيجية أكثر من شهرين فقد أطاح ترامب وزير خارجيته بتغريدة عابرة ومعه استراتيجيته. وها هو يستبق تثبيت جون بولتون، صقر المُحافظين الجُدد الهَرِم، في منصب سكريتير الأمن القومي فيتحدّث عن عودة الجنود الأميركيين في سوريا إلى بلادهم قاطعاً الطريق على كل معنى سوري لهذا التعيين. وإذ يُصاب حلفاؤه بالهلَع، يوحي بإبقاء جنوده لأشهر، شرط أن تتحمّل المملكة العربية السعودية كلفة هذا البقاء. ولا يمانع في أن تُنقذ باريس ماء الوجه ببيان مشترك يتحدّث عن القضاء على داعش وعن "انتقال سياسي" للسلطة ما عاد يُغري أحداً من المسلحين وبخاصة الذين غادروا الغوطة الشرقية من دون قتال يُذكَر.

وإذ يتحدّث ترامب عن عدالة القضية الكردية وعن وجوب منح الكرد حقوقهم في سوريا، وعن دورهم المهم في التصدّي لداعش، وعن عدم السماح بالتعرّض لهم وهم في حماية القوات الأميركية الخاصىة في منبج، فإذا به يبلع لسانه عندما هدّد رجب طيّب أردوغان بالاشتباك مع القوات الأميركية إذا ما اعترضت القوات التركية في طريقها للسيطرة على المدينة الكردية.

في خلفيّة الرقصة البهلوانية الأميركية ثابت شرق أوسطي مازال يكرّره ترامب منذ حملته الانتخابية، وقد أعاد التذكير به لتبرير انسحابه من سوريا إذ قال: لقد دفعنا 7 تريليون دولار في حربي العراق وأفغانستان ولم نربح شيئا ،ً ولو أراد أن يكون صريحاً أكثر لربما أكّد : لم يعد أحد يُطيعنا في هذه المنطقة، وبالتالي لا جدوى من الانخراط مجدّداً في حربٍ سوريةٍ مُكلِفة وغير مضمونة كرمى لعيون حلفائنا. هذا إذا أردنا إهمال مزاج الرأي العام الأميركي الذي ما عاد يريد الانخراط في حروب خارجية بعد الخسائر الفادِحة التي تحمّلها الأميركيون في مغامرات حكوماتهم الفاشلة.

يجب ألا ننسى في هذا السياق التحذير الذي أطلقه فلاديمير بوتين قبل أسابيع قليلة حين أكّد أنه سيردّ بقوّة على كل مَن يتعرّض لروسيا وحلفائها. وقد رأينا إثر هذا التحذير في استسلام الغوطة من دون تدخل إسرائيلي ومن دون لهجة حربية غربية عموماً وأميركية بخاصة. وسنرى إثر هذا التحذير في تضييق هامش المُناورة الأميركية في سوريا ، وبالتالي إعلان ترامب عن سحب قواته من هذا البلد بأسرع وقت أو في الوقت المُلائم لا فرق ، ناهيك عن صرف النظر عن إعداد أكثر من مئة ألف جندي احتياطي للتدخّل في هذا البلد لو برهنت روسيا عن ضعف أو خوف أو تراجُع.

يعكس ما تقدّم ملامح قوّة أميركية مكلومة ومتراجعة تغطي تراجعها بتعيين صقور من ورق في مناصبها العليا. لقد فقدت قدرتها على الردع والتهويل الفعّال بعد حروب العراق وأفغانستان ولبنان وغزّة ، وبعد واقعة القرم وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبيه فضلاً عن غامباس والحبل على الجرار كما يُقال في لبنان .. وما حديث ترامب عن البنية التحتية في الداخل وإعادة بناء القوّة الأميركية انطلاقاً من شعار أميركا أولاً، سوى دليل إضافي على ما ذهبنا إليه.

التراجُع الأميركي يستدعي التحذير من الخلط بين انحسار القوّة الأميركية الأولى في العالم وبين نهايتها، فهي ما زالت قادرة على خوض حروب طاحِنة إذا ما اضطرت إلى خوضها وإذا ما بدا أنها مصيرية بالنسبة إليها. إن حدثاً مركزياً بحجم 11 سبتمبر 2001، تسبّب بتغيير استراتيجي في إدارة بوش الإبن التي اختيرت للتراجع والانحسار نحو الداخل، فإذا بها تخوض حربين فاشلتين وتخسر 7 تريليون دولار فضلاً عن عشرات الآلاف من الجنود والجرحى ، ولا شيء يردع الإدارة الحالية عن تكرار السيناريو نفسه في ظروف مُشابهة.

الواضح أن الانسحاب الأميركي من سوريا يحمل أنباء سيّئة للغاية إلى حلفاء واشنطن المحليين والغربيين عموماً، فهو لا يُتيح لهم الوقت الكافي لإعادة التموضع ولرسم استراتيجيات أخرى. أما مهلة الشهور التي وردت في كلام الناطق باسم الخارجية الأميركية فلا تُعدّل الشيء الكثير في ما صار من الممكن وصفه بـ " فييتنام "أميركية جديدة بخاصة وغربية عموماً في بلاد الشام. "فييتنام" جديدة تحمل إلى صدارة المسرح في الشرق الأوسط على التوالي روسيا وتركيا وإيران، هذا الثلاثي الذي لن يكون بوسع أحد تفاديه من الآن فصاعداً في كل ما يتعلق بشؤون المنطقة ورسم موازين القوى فيها ، هذا إذا ما أردنا استبعاد القضايا الأخرى في العالم. ومرة أخرى أقول، كما أن "فييتنام" جنوب شرق آسيا لم تطو صفحة القوّة الأميركية فإن "فييتنام" جنوب غرب آسيا في بلاد الشام لن تطيح بالقوّة الأميركية التي مازالت تحتل المرتبة الأولى في العالم ، لكنها سترسم حدوداً لتدخّلها وستجرّدها من القدرة على التحكّم " بالصحو والمطر " ساعة تشاء.

في الغرب يمكن اعتبار بعض المُثقفين والصحافيين بمثابة "جنود حراسة" يُدافعون عن ظواهر ويُدينون أخرى، يُسلّطون الضوء على تطوّر خطير ويرشدون إلى تطوّر إيجابي، يُحذّرون من كارثة ويُشيرون إلى حدثٍ سعيد.. الخ الباحِث السياسي الفرنسي الجاد " أوليفييه روا " أحد أهم " جنود الحراسة " في بلاده تجرّأ على القول إن الرئيس بشّار الأسد هزمَ الغرب في الحرب السورية ، وإنه القائد العربي الوحيد الذي تمكّن من ذلك منذ وقت طويل. ولو أراد الذهاب إلى أبعد لقال، إن الاسد وهوشي منه وجهان لعملة واحدة.

المصدر: الميادين

حول الموقع

سام برس