سام برس
بقلم :عمر المحبوب/ طنجة / المغرب

لم تعد العتبات النصية بتلك البساطة مجرد علامات بكماء خالية من التشويق والإثارة بل غدت خطابات أدبية غنية الدلالات وملفوظات إشارية ذكية التبلور. هذا ما أوضحه الباحث الناقد المغربي "عبدالمالك أشهبون" في مقدمة كتابه "العنوان في الرواية العربية" والذي رأى فيه أهمية العتبات النصية التي تشتمل أيضا إضافة إلى عناصر الغلاف الخارجية العتبات الداخلية المتمثلة بالإهداء والتنبيهات والهوامش والتذييلات أي التي من دونها يبدو النص عاريا من سماته.

كما هو معلوم يقول الاشقاء المصريون "الكتاب يعرف من عنوانه " وهذا قول قديم يحمل دلالات متعددة. يحمل هذا القول فرضية ان العنوان هو اهم مفتاح لباب فهم معاني عالم الكتاب. هذا القول استمد شرعيته ربما من اغلب العناوين قديما كانت تلخص مضمون الكتب ، أو تؤشر وتحيل على معانيها فيما كانت العناوين الملتبسة والجديدة مرفوضة بالمطلق من طرف النقاد القدامى الذين كانوا يرون في تلك العتبة أمرا بسيطا ، ولا يجب إعارته الكثير من الاهتمام.

"لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، تغيرت الأمور، وأصبح الكتاب الروائيون العرب يولون اهتماما نسبيا لعناوين نصوصهم، وأضحى الاهتمام بالعنوان "ظاهرة نقدية طارئة" على مستوى النقد العربي الحديث، الذي أصبح ينظر في عتبات النص، من مثل العتبات الواقعة في الصفحة الأولى من الرواية، من اسم المؤلف، والتعيين الجنسي، وصورة الغلاف، والعنوان، أو العتبات الواقعة داخل العمل الروائي نفسه، من إهداء، ومقدمات، وعبارات توجيهية، وتنبيهات، وهوامش، وتذييلات، إضافة إلى ما يثبت في الصفحة الرابعة من المؤلف الأدبي، والمتعلقة بالكتاب، وعدد صفحاته، وناشره، إذ ظهرت مجموعة من الدراسات النقدية الرائدة في المجال، التي كانت لها مزية تحقيق السبق في عرض الأفكار النقدية الجديدة حول عتبات النص، التي لم تعد مجرد علامات نصية بكماء، خالية من التشويق، والإثارة، والدلالة".([1])

وارتباطا بهذا الموضوع سأقتصر في هذه الورقات على الحديث عن بعض العتبات داخل هذه الرواية "أَعْشَقُنـــي " ودلالاتها بطبيعة الحال. وهذه اهم العتبات التي سأشتغل عليها هنا : العنوان، الغلاف ،التصدير ،الاهداء ،المقدمة ،ثم الافتتاحية.

كلمة عن العنوان

رواية " أَعْشَقُنـــي" هي من الرّوايات العربيّة القليلة جدّاً التي تحمل اسماً يتكوّن من جملة فعليّة كاملة في حين معظم الرّوايات تحمل اسماً لا غير أو جملة منقوصة تبدأ باسم أو بظرف أو بحرف جرّ كما تجسد الامثلة اسفله، (اقتصرت على عناوين بعض الروايات العربية التي صدرت مابين سنة 2010 و 2014 والتي لاقت انتشارا هي الاخرى بين اوساط القراء العرب ):

1-"فراكنشتاين في بغداد" للكاتب العراقي أحمد سعداوي 2-"الفيل الازرق" للكاتب المصري الشاب احمد مراد

3 -"في حضرة العنقاء والخل الوفي" للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل 4 -"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" للروائي السوري خالد خليفة 5 - "رواية فرسان وكهنة" للروائي السعودي منذر القباني 6- "موسم صيد الزنجور" للمغربي اسماعيل غزالي .

لقد تمردت الاديبة الروائية سناء شعلان هنا على العرف العربي الخاص باختيار العنوان لتغرد خارج السرب كما يقال: اختارت لروايتها عنوانا في صيغة جملة فعلية تتكون من كلمة / فعل مضارع (أَعْشَقُني)يكون العاشق والمعشوق فيه واحدا. هذا الزمن المضارع الذي قد يحيل على الأبدية ويغي تخليد اللحظة ؛ خلود الحب و خلود لحظة العشق هنا .كما قد يحيل هذا المضارع الى هيمنة هذا الموضوع( موضوع العشق) ويلخص حالة القلق التي جعلتها الكاتبة بوابة نحو عوالم الرواية .

ان "أَعْشَقُني" جملة فعليّة كاملة بعيدة البعد كلّه عن السّكون، تجسد حالة فعل مستمر، فعل موصول لا ينتهي.

هذا التمرد ان صح القول على مستوى اختيار العنوان ،وعلى مستوى الشكل( ترك صفحات بيضاء داخل الرواية: 4 -8 - 10 وتخصيص الصفحة 11 لمحتويات الرواية (الفصول الثمانية) ، قابله تمرد من نوع اخر تجسد في ثورة الكاتبة وصرختها الغاضبة عن هذا العالم البشري الذي تفنن في ابداع اشكال الخراب والدمار ،لكن عجز في المقابل عن ابداع اشكال العشق والمحبة .انه عالم انقرض فيه فعل العشق منذ اعوام خلت .

لاشك ان الكاتبة هنا قد تعمدت شكل العنوان لتلغي ذلك التّأويل الأوّلي الذي قد يقود الكثيرين إلى الظّن أن "أَعْشَقُني" هي جملة فعلية آمرة أي " اِعْشَقْنِي " ؛وهنا ستكون الكاتبة أو البطلة تستجدي العشق من المّارة واصحاب المشاعر الجافة في عالم بشري اصبح يعمه الخراب والخواء ،عالم حابل بمفارقاته وتناقضاته الصارخة ،عالم يشهد تطور اعتى وسائل الفتك والإرهاب والإبادة لكن يشهد في المقابل اعلى درجات الجفاء والخواء العاطفي . هذا العالم الذي سيفرز لنا وضعا إنسانيا يشكل القلق،الحيرة والضياع ابرز سماته. وفي هذا العالم بالذات يتولد هذا العشق المتفرد الذي يفك شفرة رمزية العنوان :

" يا لجمال قدر يقودني إلى أن أعشقها!! أقصد أعشق جسدها،بل أعشق روحها وذاتها،من الصّعب أن أشرح لنفسي هذه القضية الملتبسة،فأنا أعشق امرأة هي أنا في واقع الحقيقة الملموس،وأنا إيّاها في السّياق المنطقيّ نفسه،ولكنّ الحقيقة أنّني رجلّ يعشق امرأة في ظروف عجيبة،إذ هو ماديّاً مفقود،وهي روحانيّاً مفقودة،ولكن كلانا في هذه اللّحظة في ذات واحدة،هي إيّاها وإيّاي،إذن أنا أَعْشَقُني،ولذلك فأنا أعشقُها.

لابدّ أنّ هذه القضية أكبر من فهمكِ الصّغير يا ورد،يوماً ما ستكبر،وتفهم معنى ما يحدث،وستفهم دون غيركَ من البشر معنى كلمة أَعْشَقُني،أنا يا وردي أَعْشَقُني،أتعرف معنى ذلك؟معناه أنّني أعشق أمّكَ شمس بامتداد لا يعرف نهاية،فهل تغضب؟تستطيع أن تركلني بقدر ما تشاء إن كنتَ حانقاً علي،ولكن ذلك لن يغيّر شيئاً من حقيقة أنّني أَ...عْ...شَ...قُ..نِ...ي...".* سناء شعلان:أعشقني،ط3، 2016،عمان،الأردن،ص 82

ان هذا العشق يمثل الترياق السحري او ذلك الماء المبارك الذي ارتوت منه الكاتبة في رحلتها : او بالأحرى رحلة "باسل المهري " ؛ والذي كان يعيش ويصارع أزمة فكريّة وأخلاقيّة وإنسانيّة وعقائديّة ونفسيّة نحو ذّاته. "باسل المهري" الذي لم يعرف الحب طريقا الى قلبه الا بعد تلك الرحلة القدرية التي ساقته لان يحيا داخل جسد اخر (جسد " شمس" الملقّبة بالنّبيّة). وكان "شمس " تخاطبه بلسان مولانا جلال الدين الرومي "وتقول له :

"ما لم نتعلّم كيف نحبّ خلق الله، فلن تستطيع أن نحبّ حقاً ولن نعرف الله حقاً"

و"ان الطريق إلي الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيسي
واجه ، تحد ،وتغلب في نهاية المطاف على النفس
بقلبك إن معرفتك بنفسك ستقودك إلي معرفة الله".

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى نستشف ان الجسد الانثوي "لشمس " خلق له صراعا داخليا،اذ تارجحت مواقفه بين قبول هذا الجسد او النفور منه. فهو كان يتمثل هذا الجسد بشكل مختلف في السابق( اشارة ضمنية هنا الى ثقافة او صورة الجسد الانثوي عند الرجل العربي).

وعودة لذلك الماء المبارك او الترياق فنجده ايضا مصدر ارتواء "شمس" النبية في رحلة انتظارها لخالد الكائن اللغوي الياسميني النادر. رحلة استمدت زادها بطبيعة الحال من طاقة هذا البعد الخامس (الحب).هذا العشق المقترن بلذة الاشتهاء والبلل الذي اختارته الكاتبة على لسان "خالد" ان يكون صوفيا ، حيث جاءت رسائل خالد لشمس تحمل قبسات ونفحات صوفية :

"انا لااحبك ،انا اصل الي منك ،ولاادخل الى ذاتي التي صرتها انت ،انت انا ،وانا انت ،وعشقي بوتقة لانصهار تفاصيلي ومفاصلي وازمنتي....."اشتهيك :خالد، ص .133

"......اعلمي ان حبي لك حبا صوفيا لاتقوى اللغة على وصفه ،ووحده الجسد حين يتحدث يقترب من المعنى ،ويمكنه ان يجعل من الدال مدلولا لقواميس العشق كلها ". اشتهيك:خالد ص ،134

ويحيلنا مضمون الرسالة الاولى بشكل مباشر على فكرة الحلول التي تعتبر احد مرتكزات الفكر الصوفي. وهذا ما يعلن بشكل صريح في مذكرة "شمس" عن "خالد":

" ...انا اقبل شمس على أي حال تكون،فاصير صوفيا بامتياز ،يتحقق لي الحلول ،فاصبح انا انت ،وانت انا ،وليس سوانا غير انانا.نعم اريد ان اعريك،وان اتمرغ في كل جزء من جسدك العارف بأمر العشق ،اريد ان اتصبب لذة".ص 193.

وفي هذا الاطار يعتبر الباحث "هشام العلوي" المرأة عند المتصوف معبر للتسامي ،وان التواصل مع جسد المرأة عبر النكاح اختبار للوصول الى تجربة الفناء في الذات الالهية ،حيث تغدو المرأة موضوعا استعماليا يطلبه السالك من اجل العبور الى موضوع القيمة الحقيقي "الله" .

كما" جعل الصوفي من الجسد الانثوي قبسا من الجماليات الالهية وبالتالي اجمل واعظم مظهر من مظاهر الالوهية المبدعة. فهو يسمو بالجسد الانثوي الى اعلى مرتبة في الوجود :مرتبة الكمال الوجودي".([2])
كلمة عن الغلاف:

ان الطبعة التي بين ايدينا الان هي الطبعة الثالثة التي صدرت سنة 2016. ولقد صدرت هذه الرّواية قبل ذلك في طبعتين؛ الأولى صدرت في العام 2012، في حين صدرت الثّانية في عام 2014.

في غلاف هذه الطبعة الثالثة ،تطل علينا الكاتبة بصورة لملامح وجهها البهي وتقاسيمه الجميلة ،يؤثث اللون الاحمر كل مساحة الغلاف ؛وذلك من خلال لون الشال/الوشاح الاحمر الذي تضعه الكاتبة على راسها ،ولمعان وبريق احمر الشفاه الذي اختارته ان يكون احمرا بدوره ايضا . كما تضفي القروط(على شكل ورود صغيرة) على انف وجبهة الكاتبة بريقا ولمعانا اخاذا.

وتحت هذا الوجه مباشرة يتوسط عنوان الرواية "اعشقني" بالأبيض في خط واضح ،عريض، كبير ومشكول . وفي حين تموقع جنس الكتاب (رواية) على جهة اليسار تحت العنوان في احمر قاني ، جاء اسم الكاتبة "سناء شعلان" بالأبيض على غرار العنوان.

فكما هو معروف فالأبيض يدل على الثراء والتحضر والرقي والتهذب والصفاء والسلام والاشراق والنقاء والبراءة .

وفي هذا الصدد يقول الباحث المصري عمر أحمد مختار :"لما كان هذا اللون مرتبطا عند معظم الشعوب- بما فيهم العرب- بالطهر والنقاء استخدمه العرب القدماء في تعبيرات تدل على ذلك، فقالوا: كلام أبيض، وقالوا: يد بيضاء. واستخدموا البياض للمدح بالكرم ونقاء العرض من العيوب. ولارتباطه بالضوء وبياض النهار استخدموه في تعبيرات تدل على ذلك[...] وأطلقوا على الحنطة وعلى الشمس اسم: البيضاء. وقالوا: الأيام البيض لليالي 13،14،15 لأنّ القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها".([3])

ان غلاف الرواية هنا يتفجر دما ان صح القول، وكما هو معروف فاللون الاحمر يحمل سمة القتل المصبوغ بدم الشعوب والموت والجحيم، فكل شيء اصبح دمويا في هذا العالم كما يصرح بذلك احد الباحثين بخصوص حضور اللون الاحمر في اغلفة الاعمال الادبية.

لكن اذا كان االلّون الأحمر ارتبط في المخيال العربيّ بالدم والثورة والشهوة والشرف، فان الكاتبة اختارت ان تمنحه دلالة اخرى في هذه الرواية ليرمز الى التشبت بالحياة ،هذه الحياة التي لن تستقيم في نظر الكاتبة الا عبرالارتواء من نهر العشق المقرون بالشهوة كما شهدت رسائل "خالد" لشمس" على ذلك ( اشتهيك : خالد ).هذا الانتصار للحياة الذي تترجمه العبارات التالية:

"ان القلب يتسع حتى يضيق العالم ،ان القلب يستطيع ان يحمل بين عرائشه الصور الجميلة كلها". ص 9

"بلسان البشرية :اقول ان هناك ما يستحق المحاولة في هذه الحياة". ص 151.

"الايمان بان الحياة ثمينة ،ويجب ان تعاش حتى استنفاد الفرص جميعها ".ص 152

ان هذا اللون الاحمر هو اكثر الالوان ارتباطا بالحب وبالعاطفة والاثارة الجنسية ايضا. ولهذا نجد من اطلق عليه صفة "الأحمر "العاطفي".فما هي دلالة هذا الارتباط ؟

"ربما لأن القلب يخفق بسرعة لدى الإحساس بعاطفة معينة، أو ربما لأن الوجنتين تتوردان، وربما لأن الأحمر لون دافئ، وربما لأن الورد الأحمر هو الأقوى حضوراً أمام البصر، أصبح اللون الأحمر في المجتمعات الغربية رمزاً للعاطفة وللتعبير عنها. أما إذا تدنت العواطف إلى مستويات غير أخلاقية أو غير مقبولة اجتماعياً، فيصبح الأحمر رمزاً للخطيئة والسوء. فمن هولندا إلى الهند توصم الأحياء التي تنتشر فيها أعمال السوء والرذيلة في المدن بـ “الأحياء الحمراء”، كما توسم ليالي الصخب والمجون بـ “الليالي الحمراء "..... هذا اللون الذي «نحبه في الورد, ننصاع لأمره في إشارة المرور، نتألم لرؤيته على الجرح، نحترمه في رمزيته لدماء الشهداء، ويحبطنا في البورصة" ([4])

حول الموقع

سام برس