بقلم الشيخ / عبد الغني العمري ال
   إن العقل الفقهي هو العقل المفكر لدى العرب المسلمين؛ والمفكرون بالمعنى الخاص، هم الفقهاء كما هم في الحقيقة. والشرع الذي أباح للفقهاء استعمال الفكر، فإنه قد حد لذلك حدودا، منها أن يكون الفكر في مجال الأحكام، الذي هو من التشريع القانوني بالمعنى العام. ولم يُجز الشرع للفقهاء إعمال الفكر فيما عدا ذلك، إلا فيما هو مشترك بينهم وبين عموم المسلمين من اعتبار. وأما العلوم الدينية مما سوى الفقه، فليست منوطة بالفكر، وإنما بالإلقاء (الكشف). وهذا يكون بحسب درجة قرب العبد وتنوّره. والخلط بين الفقه بالمعنى الاصطلاحي، والفقه بالمعنى اللغوي، كان من غير شك، من أسباب التخلف، التي ننبه إليها هنا. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ[1]، فإنما كان يعني التفقيه الرباني الكشفي بالدرجة الأولى. وإذا كان المعنى الاصطلاحي يدخل ضمن الحديث، فإنه لا بد أن يكون في الدرجة الثانية. ولكنّ الفقهاء بقصرهم المعنى على ما يناسبهم، قد عملوا على تحريف الدين تحريفا خطيرا، نشأت عنه جل الأضرار التي تعاني منها الأمة اليوم.


       
وأما من جهة ثانية، فإن الفقه قد زاد ضعفا عندما بدأ يشتغل به أصحاب العقل المعاشي، الذين هم غير مؤهلين لذلك. وقد وقع هذا، عندما صار "التفقه" سببا للارتزاق ونيل الحظوة عند أهل الدنيا. وبما أن المعاشيين لا يهمهم إلا الرزق، فقد صار الفقه معهم حرفة كسائر الحرف. والعامة لا يميزون بين الفقيه الأصلي ذي الملكة، والفقيه المعاشي؛ فنشأ هذا الخلط الذي هو من أقوى أسباب تخلف الأمة بلا ريب.

       
وإن كان الفقهاء الأصلاء، يتقون الله في علمهم ويتحرون إصابة الحق، فإن المرتزقة قد صاروا يبيعون الفتوى لمن يدفع أكثر. بل إنهم سيوالون في بعض مراحل تاريخنا، الأجنبي الذي قد يكون عدوا للأمة، وسيفتحون له بابا إلى تحقيق أغراضه؛ وهذا من أسوأ ما وقع لنا.

       
لقد دخل الالتباس على المسلمين منذ القرون الأولى، عندما لم يجدوا أئمة الفقه يتكلمون عن فقه القلوب، وعن حلالها وحرامها؛ فظنوا بذلك أن الدين لا يتجاوز الظاهر من الأحكام. ولقد كان حريا بالأئمة أن يدلوا على أولئك الذين يفوقونهم في العلم بالدين، حتى يُبقوا الدلالة على الدين كاملة. نعم، لقد فعلوا بعض ما ينبغي فعله مع الأئمة من آل البيت عليهم السلام، زمن الأمويين والعباسيين؛ لكن الأثر كان قليلا، إن نظرنا إلى النتائج النهائية اليوم. ولا يخفى ما كان يتعرض له أئمة الفقه من إرهاب الدولة، منذ بداية عهد الأمويين؛ وإن كنا نرى أن إعلان الحق وتبيين أحكام الدين، كانا يقتضيان أكثر مما فُعل في مواجهة الاستبداد، من غير شك.

       
إن كان الدين منذ القرون الأولى قد تعرض للتحريف، بالقدر الذي كان، فما الظن به عندما ستحتك الأمة بالحضارات المختلفة إبان الفتوحات؟! وما الظن عندما تُستعمر بلاد الإسلام ويحكمها من هو على ملة أخرى؟!... وأما اليوم، فالأمة في أضعف حالاتها، بسبب التشوهات المتراكمة؛ وبسبب النفوذ الدجالي، الذي صار أهله يسيطرون على العالم اقتصاديا وعسكريا.

       
إن العقل العربي اليوم، قد عاد من أضعف العقول في العالم؛ لا لأنه ضعيف من جهة الاستعداد الأولي، ولكن لأن التربية التي تشكل معالمه سقيمة، تعمل بعكس الفطرة، وبعكس المنطق العقلي. وهذا الصنف من التربية، الذي تأباه العقول السليمة حيث كانت، لم يكن ليستمر فينا القرون بعد القرون، إلا بالقهر. وهذا هو ما دأب عليه جل حكامنا، منذ معاوية وإلى المماليك الجدد اليوم.

       
إن أمة كان يُلعن فيها علي عليه السلام على المنابر منذ القرن الأول، وهو عقل رباني كامل مبرّز، لا بد أن أمرها سينتهي إلى الحضيض (من جهة الظاهر). إن كان حب علي علامة على إيمان صاحبه، وبغضه علامة على نفاقه كما أخبر هو نفسه عليه السلام بقوله: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ: أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِق!"[2] ؛ فما القول فيمن يلعنه؟ وفيمن يسمع لعنه ولا يتمعر وجهه لذلك؟ وما حكم مسجد يُلعن فيه؟ وما حكم صلاة تنتهي بلعنه عليه السلام؟...

       
إن الفقهاء الأولين قد قصّروا من غير شك، في إعلان الحق وقتها؛ وإن كنا نعلم الشدة التي كانوا فيها. لكنّ السكوت على شناعات كهذه، لن تقتصر آثاره على زمانها. ومن ينظر إلى حال الأمة اليوم، سيجد تلك الآثار حية جديدة متزايدة مع الزمان. إن هذا التصرف العنيف من قِبل بعض حكام الأمويين مع إمام كعلي عليه السلام، قد ولّد تيارا مضادا، قابل اللعن باللعن، والبغض بالبغض. فصارت الأمة في شطر منها، متوزعة بين نواصب وروافض، ينبغي العمل على الحد من شرورهم أجمعين.

       
إن الفقه اليوم، لا بد أن يخرج عن هيمنة العقيدة، التي تجعله شيعيا أو سنيا؛ لأنه في أصله يُعنى بالأحكام العملية. ولو استطاع الفقهاء من الجانبين، العودة بالفقه إلى حياده الأول، لتحققت للأمة أولى الخطوات المفضية إلى وحدتها الواجبة. وإن المرء ليعجب كثيرا، من علماء زماننا من الجانبين، كيف يعجزون عن التزام المنهجية العلمية وحدها، في أقوالهم وأفعالهم. لا شك أن السلطة السياسية، ما زالت صاحبة الكلمة في هذا الأمر؛ لكن مع ذلك، لو كان العلماء علماء حقا، لكانت لهم بعض سلطة علمية، تعيد لهم شيئا من مكانة، فقدوها بسوء صنيعهم...
 





[1]  .
متفق عليه، عن معاوية رضي الله عنه.
[2]  .
أخرجه مسلم في صحيحه.


 


حول الموقع

سام برس