بقلم / سعدية مفرح
لا معايير محددة ولا خلطات جاهزة للكتب الناجحة، بغض النظر عن تعريف النجاح بالنسبة للكتب وعما إذا كان يعني الجودة أو الرواج والانتشار الجماهيري أو كليهما معاً. وإذا كان هذا من المتعارف عليه نسبياً عند الحديث عن كتب الشعر والروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والسير الذاتية وغيرها مما يندرج في إطار الإبداع الأدبي، فإنه يبدو كمختلف بشأنه في حالة الكتب الأخرى كالمؤلفات الفكرية والبحثية، أما في الكتب التي انتشرت أخيراً بصورة كبيرة وهي كتب المقالات الصحفية فإن الأمر يبدو أصعب قليلًا؛ لأن كثيرين لا ينظرون لتلك الكتب باعتبارها مما يستحق التقييم أصلاً!

من أمتع الكتب التي قرأتها في حياتي، بعيداً عن الشعر والرواية والسيرة الذاتية، كتب المقالات، أو تلك الكتب التي يعمد مؤلفها على تجميع مقالاته ليصدرها في كتاب. أثبت ذلك الآن رداً على بعض مراجعات قرأتها أخيراً تنال من تلك النوعية من الكتب وتحاول أن تخرجها من سياق المكتبة بحجة أن مؤلفها لم يبذل جهداً كبيراً في كتابتها أو أنها مجرد تجميع وتحصيل حاصل.

من الواضح تماماً أن من يتبنى هذه الآراء لا يعرف طبيعة التأليف ولا معايير الحكم بقيمة كتاب معين، وأكاد أقول إنه لا يعرف قيمة القراءة ولا معناها أو ضرورتها في الحياة لمن يحبها أساساً. وإلا فما معنى أن أضع مدى الوقت الذي استغرقه كاتب ما في تأليف كتابه وكمية الجهد الذي بذله في سبيل ذلك كمعيارين لقيمة كتاب معين أو أداة لقياس مدى أهميته؟ يذكرني هذا بمن يحكم على قيمة الكتاب الذي بين يديه بعدد صفحاته فكلما زاد العدد ارتفعت قيمة الكتاب وهذا أمر مضحك علاوة على أنه يدل على جهل من يؤمن به.

ولو كانت مثل هذه المعايير مما يعتد بها فعلًا لما كانت للموهبة قيمة فعلية ولا كان للإبداع أثر في ما يصدر من كتب ومؤلفات. ثم أن من يعتد بتلك المعايير وعلى أساسها ينال من قيمة كتب المقالات يفترض أساساً أن كاتبها لم يبذل من الجهد ومن الوقت ما يبذل عادة في تأليف الكتب الأخرى فقط لأنه فعلًا ذلك بما يناسب طبيعة النشر الصحفي المتتالي مثلاً !

قبل أيام وقع بين يدي كتاب للكاتب والشاعر السعودي المخضرم محمد العلي عنوانه «حلقات أولمبية»، وهو عبارة عن مقالات في قضايا التنوير والحداثة، كما أثبت ذلك مؤلفه في عبارة شارحة تحت العنوان الرئيس. ورغم أن مقالات الكتاب متنوعة تنوعاً يكاد يوهم القارئ بأن ما يقرأه ليس سوى «كشكول» جمع فيه مؤلفه كلما توافر لديه من مقالات منشورة في أرشيفه الشخصي إلا أنه سرعان ما يكتشف ذلك القارئ مهارة الكاتب في انتقاء موضوعاته واستلالها من بين تضاريس الحياة ليقدمها إلى المتلقي بطريقته المميزة في التحليل والقراءة الشخصية. فمن حكايات التراث التي يستخرجها من بطون الكتب القديمة إلى مشاهداته اليومية الراهنة ينتقل محمد العلي بمهارة تختصر المسافات الزمانية والمكانية حتى ليجعل من يطلع على مقالات الكتاب وكأنه مسافر في رحلة مستمرة سريع الإيقاعات ومتعددة المحطات، يفعل ذلك بمتعة المستكشف ولذة المتأمل في ملكوت الحياة الدنيا بكل ما تفاجئنا بها من دهشة تلو دهشة في الطريق الطويل!

قرأت كتاب محمد العلي وانتهيت منه في ساعات قليلة لأجدد ثقتي بهذا النوع من الكتب ولأتيقن مجدداً بأن قيمة الكتاب الحقيقية تنبع من قيمة الفكرة في رأس مؤلفه أولاً بغض النظر عن الزي الذي تتزيا به تلك الفكرة عندما تصدر في كتاب!

نقلاً عن مجلة اليمامة

حول الموقع

سام برس