بقلم / احمد الشاوش
التاريخ يعيد نفسه ، فما أن يخرج اليمانيون من عنق الزجاجة حتى ندخل فيها ، وما أن نتحرر من الجهل والفقر والمرض والعبودية والرواسب الثقافية المقيتة حتى نعود الى العهود المظلمة وتقبيل الاصنام وتبجيل الطغاة وتوقير المنافقين ، تتقدمنا كتائب الانتهازيين من رجال الدين والمثقفين والسياسيين والحزبيين ، مجسدين بذلك مقولة و" عادت حليمة الى عادتها القديمة " ، والعودة بذلك المعلم والمتعلم والاكاديمي والرجل المدني الى عصور الانحطاط مقابل ثمن بخس.

وما أن نُحكم عقولنا أونَحتكم اليها ، ونُفعل قيمنا ، ونستحضر عاداتنا وتقاليدنا واعرافنا واسلافنا ونخوتنا حتى تغوينا عواطفنا وتتقلب قلوبنا وتهتز مشاعرنا وتضعف ارادتنا أمام المصالح الشخصية والنزوات الجامحة وثقافة الفيد التي يدفعها هوى النفس الامارة بالسوء.

ولذلك ما أشبه اليوم بالبارحة ، بالأمس القريب قرأت قصة إنسانية قصيرة للقاص زين السقاف ، تحت عنوان " العم مسفر" نقلت صورة واقعية عن المشهد اليمني المؤلم في زمن الائمة ، وحالات الجهل والبؤس والمرض والطغيان ، كما أختزلت القصة الكثير من المآسي ، والالام ، وجمعت بين الذكاء ، والغباء ، والفطرة ، والشيطنة ، والطبع ، والتطبع ، والسعادة ، والحزن.

وتحكي لنا القصة ان العم مسفر كان مزارعاً بسيطاً وراوده الحلم ان يصبح عسكرياً في دولة الامام وبعد طلوع الروح تم تعيينه عسكري لـ التنافيذ، وبدأ الشاب المفتول العضلات يُرسل الى الكثير من المدن والقرى والنواحي والعزل لإبلاغ التنافيذ وكلما نزل على دار صار ضيفاً ثقيلاً وعسكري مشؤوم لدى القبائل وعبئ ثقيل ، يتم مداراته واكرامه وخطب وده بالذبائح والعسل والسمن والاجرة ليأمن الناس شره والمحافظة على ما تبقى معهم من زاد ، وبهذه الوظيفة زاد عوده وجسمه وطغيانه ، وماهي إلا سنوات حتى كبر في العمر وضعف جسمه وأحيل للتقاعد ، وعاد الى قريته ودخل منزله والتقاء بزوجته ، وخميس وراء خميس وجمعة وراء جمعة وبوري يطلع وبوري ينزل ، وماهي إلا أيام والبيت خالي من السمن والبر والذرة بعد ان أنفق كل مدخراته وجفت الأمطار وأجدبت الأرض وأغترب ولده وتحول البيت الى معركة يومية مع رفيقة العمر عاتكة ، وصار المطيط والعصيد أشبه بلبن العصفور في غياب الراتب ، وصارت زوجته تعايره بالمنكود بعد الفقر المدقع والموت القادم ، وبدأ يفكر العم مسفر وتوصل الى فكرة بالتواصل مع ثلاثة من أصحابه المتقاعدين وحملوا بنادقهم وذهبوا للبحث عن عامل الامام ، لتشغيلهم ، وبينما هم يشقوا الطرقات والجبال والوديان والسهول اذا بالمرض ينهش العم مسفر والحمى ترتفع والجسم يرتعش ، وما ان رأوا كهف ومسجد في رأس جبل حتى صعدوا اليه.

وطلب العساكر من عجوز ، الاذن للمبيت في الكهف وفي الصباح توفي العم مسفر ، وتم نقله الى سادن المسجد لتغسيله ، واثناء وضع الجثة على صفاء ومن تحتها ماء جاري انزلقت جثة العم مسفر وجرفها الماء الى اقاصي الدنيا ، فخاف السادن وارتعب من ضياع الجثة ، وخطرت له فكره جهنمية ورفع يديه الى السماء صارخاً بأعلى صوته يالله .. يالله .. الملائكة .. البروق اللوامع .. ففزع أصحاب مسفر من خلف الباب وهرعوا الى السادن وكلما سألوه مالك .. أين الجثة كرر تلك الكلمات ، وبعد سؤاله عن جثة مسفر ، قال ان الملائكة خطفت مسفر ، وان مسفر عرج الى السماء او ن خاتمة مسفر من افضل الخواتم ،، فقال العساكر الثلاثة اللهم أجعل خاتمتنا مثل خاتمت مسفر ، وعادوا الى بيوتهم مرعوبين من الحدث باحثين عن مايبقيهم على قيد الحياة.

لذلك فإن واقع الحال يؤكد ان مراكز القوى العابثة قبل وبعد فوضى الربيع العربي وما بعدها ، قد أرست ثقافة الحقد والكراهية والفجور والانتقام وأشعلت الدنيا بلهيب الخصومة بين أبناء اليمن الواحد ، بعد أن حولت كل الأدوات الى محرقة كبيرة وقنابل موقوته ودججت الناس بمفاهيم الثأر القابلة للانفجار تحت عناوين الدين والسياسة والمذهبية والمناطقية والتجزئة بعيداً عن أي مشروع حضاري وهو ما نعيشه اليوم على أرض الواقع ، ما يؤكد أن خاتمت الشعب اليمني اليوم تسير على خُطى خاتمت العم مسفر نحو الذل والفقر والهلاك لاسيما بعد الاقتتال والدمار والدماء والتشرد والجوع وعدم صرف المرتبات وتغول امراء ووكلاء الحرب في الداخل والخارج

ورغم ان الشعب اليمني بدأ يقطف بعض ثمار ومنجزات ثورة السادس والعشرين من سبتمبر التي شرعت في القضاء على الجهل والفقر والمرض ، وبناء آلاف المدارس والمعاهد والجامعات وشبكة المواصلات والطرقات وثروات النفط والغاز والامن والخدمات، رغم بعض الأخطاء والتجاوزات والفساد ، والمضي في تجسيد قيم الحرية والديمقراطية وتخرج مئات الالاف من الاكاديميين والمعلمين والمهندسين والأطباء والقضاة والقيادات العسكرية ،، إلا ان صناعة الحقد والكراهية والجحود والتطرف والمزايدة والنفاق والارتهان واسقاط القيم وانكار النعم كان بمثابة مرجام الغيب والضريبة الباهظة الثمن والعقاب الشديد الذي سندفعه وأولادنا لسنوات .

Shawish22@gmail.com

حول الموقع

سام برس