سام برس/ تونس / شمس الدين العوني
باب سويقة..الفن و الخبرة و ذاكرة المكان..زمن السقوط و التداعيات المريبة...

الأمكنة بعطورها النادرة و تواريخها حيث الذاكرة تنبش في خرائط المسرات ..و هل ثمة مسرات زمن العولمة حيث محو الأنماط و السير بالكائن الى رقم متروك و الأمكنة المفعمة بالوجدان الى متحف مهجور..يحضرني هذا و أنا في قلب المدينة التونسية العتيقة و تحديدا بحي باب سويقة العتيق و في غفلة من الضجيج و الأفتعال و الكذب و الوهم أمنح النفس الأمارة بالجميل و المحبذ و المطمئن شيئا من غفوات الذاكرة الخصبة..الأزة و الأنهج و الحوانيت و ما تراكم في الذاكرة من تواريخ و أحداث و وجدانيات حيث البهاء سيد المكان و الزمان..من ذلك و أنا أهم بفتح الباب و الولوج الى حيز آخر من ذاكرة باب سويقة..تذكرت القصيدة الرائعة ( أبعاد ) للشاعر العراقي الكبير سركون بولص و منها بالخصوص :

" العازف في ركنه

يعانق عوده بوداعة كأنه يصغي
إلى بطن حبلى بينما أصابعه تعذّب الأوتار..."
نعم حدث ذلك و أنا أجلس الى رجل ذاكرة و فنان و حكاء من طينة أخرى ...حدثني عن المكان..باب سويقة عن أحواله بن الأمس و اليوم و بحسرة الفنان و الحرفي و الموجوع بالآه تزحف على الأحاسيس تكشف شيئا من شجن الذات..يحنو على آلاته التي يصنعها و يتعهدها يحاورها و يسمع أناتها العالية...هي موسيقى من نهوند و صبا..

كان يحدثني عن حي باب سويقة بأدق التفاصيل و من عقود طويلة الى يومنا هذا عن الثراء الثقافي و الديني و المعماري و التقاليد و الأسواق و اللباس و عادات الناس و غير ذلك كثير فكان بمثابة حارس ذاكرة و حكاء ماهر...كيف لا و هو السيد ماهر الشريف الذي جعل من محله لبيع و صنع و تعهد الآلات الموسيقية المكان الهادئ الشبيه ببيت الحكماء بمثابة بيت الذاكرة أيضا ...فنانون من المرق و المغرب و من العالم وفدوا عليه كخبير آلات موسيقية ..صور و ذكريات و لقاءات الود و الفن و الصداقة لنذكر الفنان العراقي نصير شمة و الفنان التونسي لطفي بوشناق ...مثلا..

خفة أنامله و هو يعزف أويصون الآلات و كذلك و هو يحدثك بحرقة الانسان المحب لبلاده و المكتوي ببعض أحوالها في أيام الخواء الاعلامي و التفاهات المتلفزة و السقوط القيمي و انحسار الثقافي و الحضاري في البرامج و المنوعات وسط هيجان للرداءة و مشتقاتها في الفنون و الآداب...يا حسرة على روعة و جمال باب سويقة..قالها و في القلب لوعة و آه..

الحانوت بمثابة التحفة الفنية ما ان تدخل و تجلس ينتابك شعور بأنك في عزلة عن العالم الخارج و يالها من عزلة رائقة فيها السفر مع الجميل و الثري و المفيد و المطرب و الأخاذ..فسحة مع الذكريات حيث الذاكرة رواية مفتوحة على المدهش ...

باب سويقة المكان و المكانة كنا نتحدث و تذكرت كلام المسرحي الراحل المنصف السويسي ذات لقاء معه بدار الثقافة بباب سويقة بنادي الأدب و الفنون الذي كنت أديره في تلك السنوات من تسعينات القرن الماضي "...انا أجل منطقة باب سويقة فهي معقل من معاقل النضال الوطني وقديما منذ العهد الاسباني كانت هذه الجهة من مدينة تونس خلاصة هذا الانتماء التونسي ففيها كل الشرائح والرؤي والقيم ومنها التواضع ونبذ الوصولية فزعماء تونس وغيرهم من رجالاتها ونخبها من هذه البيئة ومنهم والدي عزالدين السويسي، فهناك بطحاء العجائب وأدباء تونس مثل جماعة تحت السور والمقاهي الغنائية كما في "الكافي شانطة" ومن الأسماء نذكر كرباكة وخليفة الاسطمبولي والهادي الجويني وشافية رشدي ومنور صمادح والصادق ثريا وغيرهم من الادباء والشعراء، حيث أسس بيرم التونسي جريدة المسلة ، كما شهدت هذه الجهة من تونس الفداوي وهو الحكّاء المتجول أو ما يعرف بالمسرح السردي وصندوق العجائب والكراكوز ومسرح الدمي... كانت هناك انماط واشكال من الفرجة وقد امتزج ذلك بالنضال وبالمدرسة العرفانية والكتاتيب وهو ما جعل الروح الوطنية تنطلق منذ الطفولة. والدي عزالدين السويسي كان ينتمي لأسرة المسرح والصحافة، حيث كان هناك تداخل مهم بين الفنون والاعلام والأدب والنضال وقد اسس صحيفة الاخبار وفيها مواقف لا تروق للاستعمار آنذاك واسس ايضا اول فرقة محترفة وهي الفرقة البلدية للتمثيل العربي وهي الان فرقة مدينة تونس حيث كانت كلمة العربي في التسمية في ابعادها المعادية للاستعمار وقد لعب الاسلام دورا حضاريا رائدا في بعث الروح النضالية ضد الاستعمار وهذا كله ساهم في نسج كياني آنذاك..." .

نعم ان علاقة الفنانين بالمدينة متينة باعتبارها حاضنة ثقافة و تاريخ و عادات و تقاليد و لعل ذلك يشير الى ضرورة المحافظة على المدينة و معمارها حيث تشهد في محيطها القريب بالخصوص نوعا من التشويه و السلخ عبر الفضاءات الفوضوية و خصوصا مشاهد التهرئة و الانحسار و خاصة أمام البضائع المختلفة و الكاملوت على عبارة الكاتبة سلوى الراشدي التي نشرت منذ سنوات مجموعة قصصية بعنوان " باب الذاكرة " بسطت فيه ما يتهدد المدينة العتيقة من اهمال و ضياع و اندثار ثقافي من ذلك ما يرد في الصفحة 27 من هذه المجموعة "...قد تتعثّر أحيانا في بضاعة مصنوعة بتايوان أو باليابان أو إيطاليا فتحثّ الخطى كأنّما تنشد المدينة العتيقة التي لم نبلغها بعد... ".. هذه المجموعة التي نعني " باب الذاكرة " على غلافها لوحة للرسامة سهير الراشدي ابنة الكاتبة و قد نشرت في 136 صفحة و في طياتها 13 قصة : اغتراب حكاية و وشم و من ذاكرة النسيان و بائع الكعك و هل وصل الساعي و من ذاكرة عجوز دينا معمر و دع الباب مفتوحا و هل نلتقي و انسلاخ و حديث الحجارة و باب الذاكرة و محطات و في بلاد فولتار...

في هذا المكان الواقع بباب سويقة يمضي الفنان و الخبير ماهر الشريف في شؤونه و شجونه لا يلوي على غير القول بالقيمة و العلو بعيدا عن السقوط و التداعيات المريبة و المربكة التي نشهدها اليوم في الحياة اليومية ...

حول الموقع

سام برس