بقلم/ د. بثينة شعبان
في الوقت الذي فكّك فيه الاتحاد السوفياتي حلف وارسو، أبقت الولايات المتحدة حلف الناتو لتصبح القطب الوحيد المهيمن في العالم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً. ولكنّ مؤتمر وارسو لم يرقَ إلى طموحات الولايات المتحدة، وفي النهاية لم يصدر عن هذا اللقاء أيّ بيان مشترك، ولم يتمكنوا من تأسيس حلف ضد إيران أو تهديد إيران بأيّ طريقة.

أمّا إيران فقد كانت حاضرة في سوتشي مع روسيا تسهم في هندسة واقع جديد في المنطقة والعالم، غير آبهة بالثرثرة التي اعتاد الإعلام الغربي إطلاقها، آملاً أن يربح الحرب قبل أن تبدأ. فقد كان الرئيس بوتين يترأس قمة سوتشي التي ضمّت روسيا وإيران وتركيا، وفي هذا اللقاء يمكن استقراء الفعل من القول ويمكن أن نتوقع سير المراحل المقبلة لأنّ الصدق واحترام سيادة الآخرين هما سيّدا الموقف هنا.

كان المشهد السياسي الإعلامي الأسبوع الماضي في العالم سريالياً صاخباً بمؤشراته الجيوسياسية واستشرافاته المستقبلية، وبدء وضوح فراقه للعالم القديم الذي كنّا نعيش فيه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. وقد أصبح جليّاً أنّنا لا نستطيع أن نفهم ما يجري حولنا إذا ما بقينا نتأبط الأدوات القديمة والمعايير التي ورثناها من القرن الماضي. فقبيل مؤتمر سوتشي وما سمّوه "تجمع وارسو"، اجتمع ممثّلو الفصائل الفلسطينية في موسكو لتضييق حدة الخلافات وإيجاد مسار مشترك يخفف ضرر الهجمة الصهيونية الأميركية عليهم وعلى مستقبل شعبهم وحقوقه المهدورة. وربما تكون مصادفة مرسومة أن يلتقي أعداء الأمس وأصحاب اليوم في وارسو، في الوقت الذي تُعقد فيه قمة سوتشي لضامني مسار أستانة، وقد تكون الولايات المتحدة اختارت وارسو لرمزيتها التاريخية، إذ كان حلف وارسو الذي يترأسه الاتحاد السوفياتي في حينه هو الذي يواجه سياسات حلف الناتو العدوانية في العالم، وكان الاتفاق بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية هو أن يتمّ تفكيك الحلفين العسكريين وارسو والناتو.

ولكن في الوقت الذي فكّك فيه الاتحاد السوفياتي حلف وارسو، أبقت الولايات المتحدة حلف الناتو لتصبح القطب الوحيد المهيمن في العالم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً. ولكنّ مؤتمر وارسو لم يرقَ إلى طموحات الولايات المتحدة، فقد غابت عنه أهم الدول الأوربية: ألمانيا وفرنسا، وكان وزير الخارجية البريطاني هو وزير الخارجية الأوروبي الوحيد الذي حضر هذا اللقاء، وفي النهاية لم يصدر عن هذا اللقاء أيّ بيان مشترك، ولم يتمكنوا من تأسيس حلف ضد إيران أو تهديد إيران بأيّ طريقة.

وتبيّن أن جزرة العداء لإيران كانت تهدف إلى جرّ دول الخليج إلى التطبيع الرخيص مع كيان العدو الصهيوني، حيث ظهر نتنياهو نجم المؤتمر معتقداً أنّ من يلتقون معه من الأعراب قادرون على إجهاض الحقّ الفلسطيني وتسليمه مفاتيح القدس وحقّ الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم. وبدا هذا الوهم في أوجه حين أدلى نتنياهو بتصريحه: "إنّنا هنا نصنع التاريخ"، ناسياً أو متناسياً أنّ التاريخ تصنعه الشعوب، وأنّه والحكام الذين يلتقيهم زائلون، وأنّ القول الفصل سيكون للشعوب وليس لحكامها، أيّ إنّ وارسو كان تظاهرة إعلامية ظاهرها العداء لإيران وباطنها جرّ دول الخليج إلى الحظيرة الصهيونية، وبالتالي إعلان عدائها للقضية الفلسطينية، والسير في ركب من يهدم منازل الفلسطينيين ويعتقل أطفالهم ويدمّر أراضيهم الزراعية ويتنكر لحقوقهم المشروعة. والنتيجة الحقيقية لهذا المؤتمر هي غياب الوحدة الأوروبية وبداية تفكّك أوروبا، إضافة إلى زيادة الشرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا.

أمّا إيران فقد كانت حاضرة في سوتشي مع روسيا تسهم في هندسة واقع جديد في المنطقة والعالم، غير آبهة بالثرثرة التي اعتاد الإعلام الغربي إطلاقها، آملاً أن يربح الحرب قبل أن تبدأ. فقد كان الرئيس بوتين يترأس قمة سوتشي التي ضمّت روسيا وإيران وتركيا، وفي هذا اللقاء يمكن استقراء الفعل من القول ويمكن أن نتوقع سير المراحل المقبلة لأنّ الصدق واحترام سيادة الآخرين هما سيّدا الموقف هنا. وقد أصرّ وكلاء الإمبريالية التي هي في حالة أفول مؤكد أن يرسلوا إشارة إلى الرئيس بوتين مفادها أنّ الناتو يتخذ إجراءات من أجل وجوده في البحر الأسود، وأنّ أعضاء الناتو يدعمون أوكرانيا، وخاصة من أجل زيادة وجودها في البحر الأسود.

في الوقت ذاته، يعقد وزير خارجية فنزويلا في الأمم المتحدة مؤتمراً صحافياً محاطاً بممثلي الدول الذين يدعمون الحكومة الشرعية المنتخبة في فنزويلا، حكومة مادورو، بينما يدعو عملاء واشنطن إلى عقد مؤتمر للمعارضة الفنزويلية في واشنطن. وفي الوقت ذاته يطرح مشروع قانون عقوبات أميركية جديدة في الكونغرس ضد شركات النفط الروسية، كما يطرح مشروع قانون سيزر في الكونغرس ضد سوريا، ما يعطي الانطباع بأنّ الكونغرس الأميركي يعتقد بأنّ الولايات المتحدة هي قوّة استعمارية ضاربة كما كانت بريطانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر تحتل وتنهب وتعاقب دولاً وشعوباً من دون رادع.

هل أصبحت الصورة جليّة الآن: امبراطورية غربيّة تتهاوى فتمسك بمبدأ العقوبات ضد الدول والأشخاص والشركات وتختلق معارضات من داخل البلدان: من ليبيا إلى سوريا واليمن وفنزويلا، وتنزع الشرعية عمّن يحمون البلاد، وتضفي الشرعية على من اختارتهم من عملاء استخباراتها، وتحاول تنصيبهم بالقوّة الغاشمة في الحكم ليكونوا لها تبعاً وخدماً ضد مصالح شعوبهم وبلدانهم، وبما يكفل نهب الولايات المتحدة الامبريالية لهذه الثروات وإبقاء أهل البلاد في حالات فقر مدقع كما كانت تفعل بريطانيا وفرنسا بمستعمراتها. في كلّ هذه المظاهر الإعلامية والسياسية يغيب عن أذهان البعض أنّ الشعوب وحدها هي صانعة التاريخ، وأنّ هذه الامبراطوريات العدوانية آيلة إلى السقوط، وأنّها سوف تسقط مهما تمظهرت بمظهر القوي المرتاح، ومهما علا صراخها العدواني.

العالم الجديد هو العالم الذي يرفض أن يكون جزء من أبنائه رهينة في أيدي الآخرين، كما يرفضُ أن يملي هذا الجزء نتائج خيانته على بلاده وشعبه، والعالم الجديد هو العالم الذي انكشفت فيه كلّ ألاعيب المستعمرين والمحتلين والإرهابيين... والعالم الجديد هو العالم الذي انكشف فيه المستور في تصرفات بعض الحكّام وتفريطهم في حقوق أبناء جلدتهم وخيانتهم لأقدس مقدسات بلدانهم وشعوبهم... العالم الجديد هو العالم الباحث عن الكرامة الشخصية والوطنية... وهو العالم الذي لا يأبه لقيمة لحظة التقاط صورة الخونة مع القتلة المعتدين، لأنّه يعلم أنّ ما سبقها خواء وما سيليها خواء وأنّها لحظة مصطنعة كاذبة لا علاقة لها بمسار الأحداث ومصير الشعوب... العالم الجديد هو الذي نصنعه نحن الملتزمين بقضايانا والمتمسكين بقرارنا المستقل وبكرامتنا الوطنية وانتمائنا إلى تاريخنا وأرضنا وشعوبنا.

نقلاً عن الميادين

حول الموقع

سام برس