بقلم/ بسام ابو شريف
في عهد بوتين قطعت روسيا الاتحادية مسافات طويلة في طريق ملاءمة التكتيكات السياسية والعسكرية للظروف المتسارعة التغيير في ميدان التناقض العالمي، وانعكاس ذلك على مناطق مختلفة من العالم أهمها الشرق الأوسط واميركا اللاتينية.

ولا شك أن هذه التغييرات التي نقلت الى العلن تكتيكات روسيا ستفرض بعد تراكمها تغييرا في الاستراتيجية، فهذه حتمية قوانين الجدل العلمية، وتبرز كأمثلة واضحة سوريا وفنزويلا واسرائيل كمواقع ثلاث تستعر فيها تناقضات روسيا والولايات المتحدة، وما يجره البلدان من حلفاء نحو هذه المعارك الاقليمية المرتبطة كلها بالمعارك الاستراتيجية لكل من الدول العظمى وتبلغنا القوانين الجدلية وقوانين علم المنطق أن تصاعد حدة الصراع في مناطق اقليمية من العالم هي “نتيجة وسبب”، تفاقم وتصاعد الصراع الدولي والدفع نحو حشد القوى على جانبي ميدان الصراع، لذلك نجد أن تعارضات تنشأ ضمن هذه المعارك الكبرى بين الأقطاب والحلفاء على كل جانب من جوانب الميدان.

والأمثلة البارزة هي تعارضات الاتحاد الاوروبي مع بعض مواقف البيت الأبيض كما حدث بشأن فنزويلا، في فنزويلا تنفذ مؤامرة ومخطط رسمه اليوت ابرامز، الذي عينه ترامب نائبا لوزير الخارجية في أول أسبوع من حكمه، واليوت ابرامز معروف لدى المتابعين بما ارتكبه من جرائم ضد الشعوب وانه لم يحاسب على كذبه أمام لجان الكونغرس والتصرف بخمسة ملايين دولار (سرقة).

كلف من وراء ظهر وزير الخارجية السابق بالتخطيط لغزو فنزويلا والسيطرة عليها لكن تفعيل المخطط انتظر ما كان قد حضره ترامب من خطوات لاقالة وزير الخارجية، وتعيين مدير سي آي ايه مكانه فالعقلية التآمرية لمدير سي آي ايه وعملياتها السرية هو المطلوب ليكون رأس الدبلوماسية الاميركية!!، لكن عيون موسكو ومادورو كانت تراقب وقرر بوتين تفعيل اتفاق موقع مع شافيز حول التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي، وفوجئ العالم بقرار بوتين قبل أشهر بارسال طائرات استراتيجية روسية لفنزويلا ولم يعرف ماذا حملت من روسيا لفنزويلا لكنها كانت رسالة، واليوم يهدد بومبيو وابرامز الروس ويطالبوهم بالخروج من فنزويلا، هذا مفهوم ضمن قواعد الصراع بين الجبارين لكن لماذا تلتقي التكتيكات الروسية بالتكتيكات الاميركية عندما تصل الأمور الى بنيامين نتنياهو؟

خلال زياراته المتكررة لموسكو لعب نتنياهو لعبة خطيرة، فقد كان يتجاوب مع بعض الاقتراحات الروسية حول الأوضاع في سوريا، وأهمها التنسيق وابلاغ روسيا حول الغارات الاسرائيلية على الأراضي السورية : أهدافا ومواقع وتوقيتا، وبرهنت الأيام خاصة عندما ارتكبت اسرائيل اسقاط الطائرة الروسية أن اسرائيل تكذب على الروس، وتحاول أن تنجو بكذبها ولعب نتنياهو لعبة اعادة قوات المراقبة الدولية لحظر وقف اطلاق النار بالجولان، وحاول نتنياهو اظهار الأمر وكأنه تنازل من قبله قدمه الروس، ولكنه كان يخبئ ما يطبقه مع الرئيس ترامب لضم الجولان لاسرائيل وأعلن ترامب ذلك الأسبوع الماضي.

وعندما طرح لافروف وبوتين مرة اخرى أن الحل يجب أن يستند للقرارات الدولية 242 و 338، وغيرها من قرارات الأمم المتحدة لم يعترض نتنياهو “خبثا”، معتمدا على أن الذي سيلغي هذه الأسس هو حليفه ترامب، وبعد اعلان ترامب “اعطاء” الجولان لاسرائيل واجه العالم كله ترامب بالرفض.

حلفاء ترامب من دول الخليج والجزيرة رفضوا رفضا معلنا ضم اسرائيل للجولان، لكن ترامب يعلم أن هذا الاعتراض شكلي لا قيمة له، وفوجئ الجميع بأن روسيا ساعدت نتنياهو في حملته الانتخابية عبر ترتيب تسلم اسرائيل لرفات الجندي الاسرائيلي الذي قتل عام 1982 لكن المتتبع لتراكم التغييرات في التكتيكات الروسية يستطيع أن يضع هذه الخطوة في مكانها فاعادة انتخاب نتنياهو هو اعادة انتخاب من أعطى الروس وعودا ” وان تكن كاذبة “، لتسهيل عملية الحل السياسي في سوريا وبقاء ننياهو هو بقاء لرجل تعرفه موسكو وتعرف دواخله .

لكن الأمر لا يقتصر على هذا، فمثل هذه التكتيكات الرهانية ترافقها عادة مجموعة من البدائل التكتيكية تحسب بدقة، وهي عادة خطط بديلة لمواجهة عدم التزام الطرف الآخر بتعهداته، والروس يعلمون أن نتنياهو يصب في نهاية الأمر في طاحونة ترامب، وساند ترامب نتنياهو بالجولان لأنه يريد من نتنياهو مساعدته في الدورة القادمة لانتخابات الرئاسة الاميركية، وذلك من خلال آلة الدعاية الصهيونية والمال اليهودي، ولذلك طلب ترامب من “عميله” الرئيس البرازيلي الجديد القيام بزيارة اسرائيل لاعطاء الدعم لنتنياهو، وحاول نتنياهو في آخر زيارة له أن يلتقي بالديمقراطيين كون الحزب الديمقراطي من أهم مؤيدي اسرائيل ليبحث معهم تخفيف الضغط على ترامب، لكنه اضطر للعودة على ضوء الأوضاع المتفجرة في المنطقة وتحديدا في غزة والضفة الغربية.

هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها رئيس حكومة اسرائيل دعمه بشكل علني وقبل فترة طويلة تسبق الانتخابات، كان رؤساء وزارات اسرائيل في السابق يلتزمون بعدم خوض المعركة الانتخابية الاميركية علنا حتى يتمكنوا من خداع كل الأحزاب اذ كان كل حزب يعتقد أن اسرائيل تدعمه، لكن اسرائيل كانت تدعم من يقدم للحركة الصهيونية دعمه .

لقد ربط ترامب ونتنياهو معاركهما الانتخابية بمعاركهما الدولية والاقليمية، فأصبح التكاتف وتجميع النقاط للهدفين الداخلي والخارجي هو مفتاح تحرك كل منهما في حملتيهما الانتخابية لكن هذا التكاتف لايعني خروج طرف من الأطراف عن الخط المرسوم .

فقد أعلن نتنياهو ” مثلا ” عن شروطه التي وافق عليها الاميركيون لتنفيذ صفقة القرن وهي:
– استمرار الاستيطان وعدم ازالة أي مستوطنة.

– كامل الأرض غرب نهر الاردن هي تحت السيادة والأمن الاسرائيليين.

– رفض تقسيم القدس تحت أي ظرف .

ويلاحظ أن نشر هذه الشروط جاء ليفتح فجوات كبيرة قد تتمكن اسرائيل من استخدامها لخداع أطراف هامة كروسيا، وهو لم يذكر قرارات الشرعية الدولية سلبا ولا ايجابا ولذلك لم يتحدث عن الحدود، ولم يشر لخطوط 1967، وهي التي تحرص القرارات الدولية للاستناد لها.

انها محاولة لخداع الروس…. فهل يعقل أن ينجح في ذلك، لا أظن ذلك لكن عملية تجميع النقاط التي تقوم بها روسيا لاستخدامها على كل الجهات تتطلب ألا تخوض موسكو معارك كبرى على جزئيات، وهي تريد أن تبقى على علاقات جيدة مع نتنياهو لتتمكن تحت ظرف ما استخدام تلك العلاقات تكتيكيا، المؤسسات الروسية تشارك في اتخاذ المواقف وتعلن عن ذلك وهو الأمر الذي لم يكن متبعا في السابق، وهذا جزء هام من التطور والتغيير الحاصل في عهد بوتين في ميدان التكتيك وكيفية التعبير عنه، فقد أدخل وزارة الدفاع والجيش في هذا الميدان فصرت ترى وبشكل معلن بيانات للجيش ووزارة الدفاع حول مواقف في السياسة الخارجية، وكذلك الدوما “البرلمان”، وغيرها من المؤسسات النووية والاقتصادية.

التكتيكات الروسية الجديدة شكلا وموضوعا رسمت لتصب نتائجها في خزان المصالح الروسية.

من هنا يمكننا وصف الدعم الروسي غير المباشر “المعنوي”، لنتنياهو في الانتخابات ولترامب يأتي ضمن هذا التقييم، فالتكتيكات الروسية تصب في مصالح روسيا لكن قوانين المنطق ودروس التجارب مع نتنياهو وترامب تدق جرسا عالي الصوت تحذيرا من خبث وخداع وعدم صدق نتنياهو وترامب، ولا أعتقد أن موسكو مرشحة للوقوع في خطأ عدم الحساب الدقيق للذي سيترتب على خبث وخداع وعدم صدق نتنياهو وترامب في حال اعادة انتخابهما.

لو قدر لي أن أرسم خطا تكتيكيا ليتراكم مع تكتيكات موسكو الحالية أضيف الاستخدام الفوري للقوة من قبل الجيش العربي السوري لتنظيف محافظة ادلب تنظيفا نهائيا، التكتيكات الفاعلة والمؤثرة هي تلك التي تنفذ في ظروف لا تؤهل الأطراف الاخرى لصدها، ولا تترك الظروف للأطراف الاخرى هامش مناورة واسعأ.

روسيا تراهن على تكتيكها، وترامب يراهن على قدرات الولايات المتحدة على الابتزاز وعقد الصفقات الجديدة التي تخدم مصالح الولايات المتحدة، ويحاول نتنياهو اللعب على الحبلين والاستفادة من الطرفين.

هذه اللعبة لايخرج منها منتصر سوى الذي يحسم المعارك على الأرض بغض النظر عن محاولات الخداع والتضليل وعدم الصدق.

*كاتب وسياسي فلسطيني

نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس