بقلم / د. عثمان الصيني
خلافات الدول والحروب المبنیة على الأعراق قديمة قدم تاريخ التمدن الإنساني، وھي حروب دافعھا الأول اقتصادي حول موارد الطبیعة كالماء والغذاء، ثم تسیست بالحروب التوسعیة، وكانت حروب العرب والشعوب السامیة في شبه الجزيرة العربیة وشمالھا بالشام والعراق مع شعوب ثلاثة ھي الفرس في العراق وشمال شرق الجزيرة العربیة، والروم في بلاد الشام وشمال غرب شبه الجزيرة، والأحباش في
الجنوب باستثناء حملة أبرھة إلى مكة المكرمة، وكانت المعارك الأكبر والأشرس ھي مع الفرس في العراق، حتى حصلت معركة ذي قار التي انتصر فیھا القائد ھانئ بن مسعود الشیباني، وھو أول يوم انتصفت فیه العرب من الفرس.

أول ما ظھر الصراع بین العرب والفرس والأتراك كان في الدولة العباسیة الأولى، وتحديدا في أبناء ھارون الرشید، حیث كانت بطانة الخلیفة الأمین من العرب والمأمون من الفرس والمعتصم من الترك، (ويقصد بالأتراك ھنا الشعوب التي دخلت إلى الإسلام في آسیا الوسطى من بلاد ما وراء النھرين وبلاد الشاش وفرغانة التي تعرف حالیا بجمھوريات آسیا الوسطى المستقلة عن الاتحاد السوفییتي)، وھو صراع كان داخل الدولة الواحدة فیما عرف عند المؤرخین والأدباء بمصطلحالشعوبیة.

الصراع الأول بین العرب والأتراك كان قبل خمسة قرون عندما ھزم السلطان العثماني سلیم الأول قائد الممالیك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق، واستولى على بلاد الشام ثم مصر ثم مد نفوذه إلى الحجاز وسیطر على البحر الأحمر ثم الیمن، ھذه المقدمة التاريخیة بتسلسل الأحداث والأماكن مھمة، إذ من خلالھا نستطیع أن نفھم كثیرا من الوقائع التي تحدث حالیا في علاقة الدولة التركیة بالدول العربیة ونظرة قادتھا إلى العرب، وما دفعني إلى الكتابة في ھذا الموضوع ما قام به أحد المؤرخین قبل فترة قصیرة باختزال ھذا الصراع وتسطیحه في قضايا دينیة وموضوعات خلافیة فیھا مغالطات معرفیة، ويبقى ھذا رأيه الذي لا يمكن لأحد مصادرته أو قمعه، لكن المشكلة ھي في أن مقطعا من حواره التلفزيوني انتشر في وسائط التواصل، وتبنته بعض النخب، وبنیت علیھا استنتاجات وقراءات خاطئة، حین ذكر أن مؤسس الدولة العثمانیة أرطغرل كان مقاتلا وثنیا مرتزقا ولم يكن في إلى غیر ذلك من التفاصیل.

وسواء صح ذلك أو لا فھو لا يعد سبّة أو نقیصة، فكثیر من صحابة رسول الله الأصل مسلما، وأن ابنه عثمان أصل اسمه ھوسمن وغیّره إلى عثمان بعد زواجه من ابنة عالم صوفي، بیت المقدس عندما ذھب لاستلام مفاتیحھا سلماً «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام»، ومعروف أن التاريخصلى الله علیه وسلم- كانوا في مبدأ حیاتھم وثنیین، ولذلك قال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه - في يكتبه دائما المنتصرون، ولذلك كتب مؤرخو الدولة العثمانیة روايات عن نسبته إلى سلیمان باشا وإلى يافث بن نوح وإلى وادي الصفراء، وھي أمور نشاھد مثیلاتھا في عصرنا الحاضر عند القذافي وأمیر قطروغیرھما كثیر.

لكن الذي تؤكده الروايات ھو أن مؤسس الدولة أرطغرل التركماني قائد قبیلة قايي الغزية النازحة من سھول آسیا الغربیة إلى بلاد آسیا الصغرى، استعان به سلطان قونیة السلجوقي في حروبه، فكافأه بإقطاعه عدة مدن وأقالیم في آسیا، ولما توفي أرطغرل سنة 687ھـ/ 1288 عین السلطان السلجوقي ابنه عثمان مكانه، الذي تزوج آنذاك بابنة أحد مشايخ الصوفیة، وفي آخر القرن السابع غزا التتر آسیا الصغرى وقتلوا آخر السلاطین السلاجقة، وبذلك انفتح المجال لعثمان لیستأثر بكل الأراضي التي تحت يده، وجعل عاصمة ملكه مدينة (يكى شھر) ثم استولى على بورصة في 717ھـ/ 1317م، وبعد ذلك تأسست الدولة العثمانیة.

لكن ما علاقة كل ھذا بما يحدث الآن في تركیا تجاه الدول العربیة، ولماذا تركیا طیب رجب إردوغان على خلاف سیاسي مع مصر والإمارات والبحرين، وتخوض حربا ضد السوريین وتقوم بحملات عسكرية متكررة داخل الأراضي العراقیة (ھذا إذا تغاضینا عن عملیة كسر أنف سورية حافظ الأسد وعراق صدام حسین في موضوع سد الأناضول)، والإساءات المتعمدة والمتكررة من أعلى السلطة التركیة للقیادة السعودية، والاحتواء المھین لقطر باسم المعاھدة، ومحاولة الھیمنة على السودان، والحروب بالوكالة مع بعض أحزاب الیمن ومیلیشیات طرابلس لیبیا، والدعم غیر المباشر لحزب النھضة التونسي وبعض أحزاب موريتانیا والمغرب.

من المؤكد أن إردوغان أذكى من أن يفكر بإعادة الخلافة العثمانیة، وأكبر طموحا من أن يكون خلیفة في السلسلة العثمانیة، فھو مسكون الخلیفة العثماني السابع والثلاثین، ولا رئیس الجمھورية التركیة الثاني عشر، أو رئیس الوزراء الخامس بالإردوغانیة التي بدأت تتكون عظمتھا عنده، منذ أن كان رئیسا لبلدية إسطنبول، فھو لا يرضیه أن يكون والعشرين، وإنما يريد أن يكون إردوغان الأول، ورأى أن الطريق صارت أكثر سھولة بعد سیطرته على حزب العدالة والتنمیة، ثم سیطرته على التركیبة العسكرية الحاكمة في تركیا والسلطة القضائیة،
بفصل نحو 3 آلاف قاض، منھم قضاة في المحكمة الدستورية، وقضائه على حركة خدمة للزعیم الديني فتح الله جولن، ووضع عام 2023 بداية انطلاقته الحقیقیة، ولكن لماذا ھذا العام تحديدا؟. بدأ إردوغان في التخطیط للإردوغانیة مبكرا، ولكنه بدأ في العمل فعلیا منذ عام 2009 ،حین وجد أن تركیا أصبحت بحوزته والحلقة الأضعف التي يمد لھا طموحه ھي الدول العربیة، التي كانت في أسوأ حالاتھا، فالعراق تحت الاحتلال الأمیركي، وسورية ضعیفة تحت حكم بشار الأسد، والوضع في مصر ولیبیا يغلي بصمت، والسودان مضطرب في جنوبه وفي دارفور، ووجد أن الراحلة التي سیركبھا وتوصله إلى ھذه الدول ھي تنظیم «الإخوان المسلمین» الدولي الذي له فروع في سورية وفلسطین والأردن ومصر ودول الخلیج والمغرب العربي، ولأن الاقتصاد التركي لا يتحمل مصاريف مغامرته وجد ضالته في دولة قطر الغنیة والطموحة لأن تتجاوز عقدة صغر المساحة، ويلتقیان في الھدف نفسه، ولأنه يحتاج إلى حملة علاقات عامة، وتمھیدا لھذا الطموح قام الإخوان بماكینتھم الإعلامیة الضخمة وخبراتھم الطويلة في العمل السري تحت الأرض، بالقیام بھذا الدور في الدول العربیة، ووجد ضالته في الاتحاد العالمي للعلماء المسلمین الذي أسسه القرضاوي عام 2004 ،ويضم عددا كبیرا من العلماء بعضھم من خارج الإخوان الذين انسحبوا عندما أدركوا اللعبة، وجعل اجتماعات الاتحاد وأنشطته ودوراته تعقد في إسطنبول، وتكون غطاء للالتقاء بالعناصر المستھدفة والمتعاونة معھم والمجندين من مختلف الدول.

وجد إردوغان أن أفضل بوابة لكسب قلوب العرب ھي فلسطین، فوضع ثقله في ھذا الجانب عام 2009 أثناء الھجوم الإسرائیلي على غزة، وقام بجولة في الشرق الأوسط رغم علاقاته الطويلة والعمیقة والمستمرة مع إسرائیل، ومن ذلك تمثیلیة دافوس عندما غادر القاعة احتجاجا على أنه لم يمنح أكثر من 12 دقیقة للحديث والرد على بیريز، وعلقت حماس على الحادث بقولھا: على الحكام العرب أن يقتدوا به.

ونتیجة لھذا الجھد المنظم والناجح حصل على جائزة الملك فیصل العالمیة عام 2010 وعلى جائزة القذافي في العام نفسه، ثم دخلت تركیا وقطر بثقلھا خلف الإخوان في ثورات الربیع العربي، ابتداء من 2011 في تونس ومصر والیمن وسورية ولیبیا، وكان اعتماد الرئیس الأمیركي أوباما حول الشرق الأوسط الجديد على ثلاث دول إقلیمیة في الشرق الأوسط ھي إيران وتركیا وإسرائیل، والتصالح مع «الإخوان المسلمین» مواكبا لطموحات إردوغان. غیر أن تطورات الأحداث بعد ذلك، خاصة بعد سقوط الإخوان في مصر، وفوز ترمب بالرئاسة، وظھور قوة القیادة الجديدة في السعودية عام 2015 ،ومحاولة الانقلاب التركیة في 2016 ،ومقاطعة دول التحالف الرباعیة لقطر وكشف مخططاتھا، بطأت كثیرا من مخططاته، ولأنه كان يخطط لأن يكون عام 2023 بداية انطلاقته الفعلیة، فصار إردوغان أكثر حدة وعصبیة، وكانت ردود أفعاله وأفعال مسؤولیه وتصريحاتھم أكثر حدة وانكشافا، ولكن لماذا حدد إردوغان عام 2023 عاما لانطلاقته؟. نافذة بدأ إردوغان في التخطیط للإردوغانیة مبكرا، ولكنه بدأ في العمل فعلیا منذ عام 2009 ،حین وجد أن تركیا أصبحت بحوزته، والحلقة الأضعف التي يمد لھا طموحه ھي الدول التي كانت في أسوأ حالاتها.

المصدر: الوطن اونلاين

حول الموقع

سام برس