بقلم/ محجوب محمد صالح
سيظل يوم الاثنين الثالث من يونيو يوماً فارقاً في تاريخ السودان الحديث، بحسبانه اليوم الذي شهد مجزرة كارثية، أودت بحياة العشرات من الشباب السودانيين المعتصمين في ساحة القيادة العامة للجيش السوداني، والذين ظلوا في أماكنهم تلك قرابة الشهرين من الزمان، آملين أن يثمر اعتصامهم المتطاول عن تحول ديمقراطي حقيقي ينقل بلادهم من حكم شمولي استبدادي أحاط بأعناق أجيال متعاقبة على مدى ثلاثة عقود من الزمان، كانت مواقفهم تتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، وهم يتابعون مسار المفاوضات البطيئة مع المجلس العسكري الانتقالي، والتي لم يتبق أمامها إلا عقبة واحدة.

لم يكن في حسبانهم انهيار المفاوضات، أو أن تتحول الشراكة مع المجلس العسكري -التي بدأت في السادس من أبريل حينما تصدى أفراد من القوات المسلحة لحماية المتظاهرين الساعين للاعتصام في ساحة القيادة، وبلغت ذروتها عند الحادي عشر من أبريل عندما أعلن الجيش انحيازه للحراك الشعبي، وأزاح النظام البائد- إلى مواجهة دموية تنفتح فيها نيران الشريك على صدورهم العارية، وتحصد أرواحهم المتطلعة إلى غد مشرق، فأذهلتهم المفاجأة، المجلس الذي برر تمرده على سلطة الإنقاذ بأنها طالبتهم بالمستحيل عندما طلبت منهم أن يفضوا الاعتصام بالقوة، حتى لو أدى ذلك لهلاك ثلث المعتصمين، فهالهم ما سمعوا من قادة الإنقاذ، وتمردوا عليها وأطاحوا بها، وانحازوا للمعتصمين السلميين، حسبما قالوا، فكيف عادوا هم أنفسهم لينفذوا تحت رايتهم ما رفضوا أن يفعلوا تحت رايات الإنقاذ، وكيف نسوا وعودهم المتكررة التي سمعها الجميع عبر كل وسائل الإعلام الحديث والقديم بأنهم (لن يفضوا الاعتصام بالقوة)؟!

لم يفضوا الاعتصام بالقوة فحسب، بل قد بالغوا وأفرطوا في استعمال القوة، ولاحقوا وطاردوا وألحقوا صنوفاً من الأذى بالمعتصمين وهم يلاحقونهم عبر الطرقات والأزقة، كانت هذه هي المفاجأة.. مفاجأة التنكر للوعود التي أجزلت، والتنكر للاتفاقيات التي عقدت والشراكات التي نشأت.. العنف متوقع من الأعداء، لكن حين يأتي ممن تفترض أنهم حلفاؤك فإنه يشكل طعنة غادرة في الظهر، وعدواناً مع سبق الإصرار والترصد، وتؤكد تلك الحقيقة أن قوات تحركت في نفس الوقت المحدد في مدن مختلفة وبعيدة لتفض اعتصامات محلية، فتلك كانت خطة ممنهجة ومرسومة.

لا غرو إذا كانت هذه الفجيعة قد أدت الى ردة فعل محلية وإقليمية، بل ودولية واسعة، ورسمت صورة كالحة لما حدث في السودان، فما حدث لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن القفز فوق تداعياته، وخير وسيلة لمواجهته أن ينطلق فوراً تحقيق محايد ومستقل تتولاه جهة نزيهة وموثوق بها، وتحت رقابة دولية، مع إعمال مبدأ المحاسبة التي تضع الأمور في نصابها، وتكشف كل الحقائق المتعلقة بما حدث في تلك الليلة الليلاء، ولن يهدأ بال لأب أو أم رزئ أو رزئت بفقد فلذة كبدها، أو أخ فقد أخيه أو أخته، ما لم يعرف حقيقة ما حدث ومن يقف وراء تلك المجزرة، وإنه -أياً كان دوره- سينال جزاءه العادل.

صحيح أن الأمر متعلق بمصير الأمة، وأن أولئك الذين قادوا الحراك كانوا يعرفون ما ينتظرهم من تضحيات، وقد أثبتوا دائماً أنهم كانوا على استعداد لدفع مهر الحرية، وأن النضال ينبغي أن يستمر، وأن الحل إن كان يكمن في الحوار، فلا بد للحوار أن يتواصل حتى يصل إلى نتائجه المرجوة، لكن الأمور تحت الظروف الحالية، تحتاج لإعادة ترتيب، ولتحديد جديد للأولويات، والأولوية القصوى يجب أن تكون للتحقيق الحر المستقل الشامل الذي يكشف كل ما أحاط بهذه الكارثة، ومن المسؤول عن وقوعها، ومن ينبغي محاسبته على الجرائم التي ارتكبت، ومتى ما اكتمل التحقيق وظهرت نتائجه، أصبح الميدان ممهداً لأي نشاط آخر، وأي حراك جديد يجب أن يأتي بعد هذه المهمة الأولى.

*كاتب سوداني

mahgoubsalih@maktoob.com

نقلاً عن العرب القطرية

حول الموقع

سام برس