سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني
متعة المسرح و جمالياته بعيدا عن الضجيج و التهريج..المسرح هنا حرقة وذهاب للأقاصي..

الفن هذا الآسر و المحير حيث الأسئلة المربكة ارباك حياة و واقع وفق تحولات و تبدلات رهيبة و مذهلة منذ أزمنة أولى ..و هنا يمضي الفنان المفعم الصفاء النادر لا يملك غير فنه ينحت به و منه هبوبه و ملاذات خلاصه..خلاص الآخرين..بنواحه الخافت و دهشته العالية كعصفور يرسم بريشه الناعم نوافذ أخرى للخلاص المبين..

هي لعبة الفن الباذخة حيث لا مكان لغير القول بعين القلب ..هكذا عرفناه..طفلا بحجم الحلم و شاعرا برائحة الشيح يدعو الصخور لتتنحى كي يمر...سنوات رائقة من أواسط الثمانينات بالعاصمة حيث الفتية الحلم الأمل و الشعر..من نادي علي البلهوان و في تلك الساعات من حرقة سؤال الشعر التونسي حيث تعالت الأصوات بالحوار و الجدل و النقاش النبيل ...صلاح الدين ساسي و المختار الخلفاوي و الحبيب الهمامي و عبد الحليم المسعودي و حافظ محفوظ و عماد الشيحاوي و الهادي الدبابي و الهادي الجزيري و كمال الشيحاوي و الطاهر الأمين...و طبعا حمادي الوهايبي..الشاعر الذي ذهب بالشعر من تلك الأزمنة الى المسرح الآن و هنا..هذا هو السر الذي نفهم منه شعرية حلم الأعمال المسرحية التي يروم حمادي الوهايبي خوضها و انجازها..هاجسه المسكون به نحو الاختلاف عن السائد..حمادي في مسرحياته هذه يحلم بلون مسرحي آخر مخالف للسائد به شاعرية من الديكور الى الشحنة و الحركة و الفضاء و كذلك النص..

خامرني كل ذلك و أنا أجلس بكم هائل من النظر و التأمل و الاستمتاع قبالة العمل الكبير و المغامر و الشجاع " جويف " بالقاعة الكبرى للعروض بالمركب الثقافي أسد ابن الفرات بالقيروان حيث جمهور مهم في اصراره على متابعة العرض و معانقته الى ما بعد منتصف الليل في يوم قيرواني من هذا الصيف الحار..انتصرنا على الحر و العرق كما انتصر فريق العرض " جويف " في شؤون الآداء بالنسبة للممثلين و الانارة و الأضواء و الموسيقى و الديكور الرائع و أكثر من ذلك الحكاية و الرواية...شجن و أحوال و أحداث و دراما و ابداع و براعات لحركات الجسد و القول ..

كان هذا في افتتاح الدورة 23 لمهرجان ربيع الفنون الدولي بالقيروان..يحضر المسرح و لا غرابة في ذلك فالقيروان أرض الشعر و المسرح و الفنون المجاورة و المتحاورة..
عرض مسرحية "جويف" لمركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان عن نص و إخراج لمديره الفنان القدير حمادي الوهايبي في أداء رائق لكل من حسام الغريبي وفاتحة المهدوي ومحمد السايح وفاتن بلحاج عمر ويسرى عيّاد وهيبة العيدي.

ديكور جميل ستارتان بأحرف عبرية و تلوينات تجريدية و في الجهة اليسرى للركح "البنك" للجلوس و الحديث لينقلب بفعل الرغبة في الرقص و الغناء لتبرز التداعيات في سينوغرافيا تضعنا في قلب الثورة التونسية الدخان و الهتاف و العواصف التي تظهر معها حالات خوف و أسئلة ليهود تونسيين عن واقعهم و مآلهم تجاه متناقضات و ارباكات بين استمرارية تعايش بهم و معهم و تهديد لمصائرهم و هذا من تلوينات التعاطي المختلف الذي عاشته تونس المتسامحة في تحولات سياسية مختلفة منها ما يعيدنا الى الهزائم العربية و بالخصوص حرب 67 التي عايش فيها اليهود التونسيون نفس الحالة و منهم من غادر تونس و لكن في المسرحية يتم التعاطي مع واقع اليهود الثقافي و الاجتماعي و السياسي بتونس لتغلب سمة التسامح و لكن الجرأة و الشجاعة في " جويف " تكمنان في كشف النوايا و الأفعال المريبة للبعض من اليهود على غرار " ميمون " الذي تشغله جريمة تهريب ما هو ثمين من تراثنا و ثقافتنا " نسخة نادرة من التوراة تعود الى 500 سنة" و قد نجح في هذا الدور بامتياز الفنان المبدع حسام الغريبي طبعا بقية الممثلين أبدعوا في الآداء تناغما مع المتطلبات الجمالية و الفنية للعمل ..و من هنا نفهم ما قاله مخرج العرض حمادي الوهايبي بخصوص ما لاقاع انجاز المسرحية من نقد و حتى ترهيب في الأوساط الاعلامية الصهيونية..تجربة تونس و خاصة مع يهود جربة و حارات تونس العاصمة و حلق الوادي و لافيات ...و غيرها في صميم المسرحية.. ف "‬عزيزة"‬ ‬يهودية ‬ ‬مغربية ‬و ‬تونسية ‬مسلمة تبرز ذلك في دورها ..و "‬ميمون"‬ الأركيولوجي عالم الآثار ‬دوره استعماري عدائي و مريب و يفشل في اقناع اليهود بالهجرة و مغادرة البلادالتونسية..هي لعبة المسرحية في الفصل البين بين المواطنة و التعايش و التسامح من جهة و الغدر و العدوان من جهة أخرى..

اشتغال بين فنيا و جماليا على حيز من طبيعة العلاقة بين المسلمين واليهود في تونس انطلاقا من الوعي الجمعي و الثقافة الشعبية من خلال فكرة "يهودي حشاك" مثلا ..هكذا تبدأ المسرحية التي دامت حوالي ساعة و 15 دقيقة ..

حمادي الوهايبي الشاعر و المسرحي في رحلة المسكوت عنه حيث العمل المقدم " جويف " بمثابة الكتاب الجامع لحيز من الأسئلة و الحكايات و التأملات و القلق لواقع و حقبة و ثقافة و متغيرات و وجدانيات ...و غيرها كل ذلك بمتعة الفن المسرحي و جمالياته بعيدا عن الضجيج و الافتعال و التهريج..المسرح هنا فن و حرقة و ...ذهاب للأقاصي..

حول الموقع

سام برس