بقلم/ عبدالباري عطوان
لماذا نعتقد بأن الانسحاب الأمريكي من شمال سورية ليس طعنة مسمومة جديدة للاكراد فقط وانما هدية “ملغومة” لاردوغان؟ وكيف نفسر الصمت السوري الروسي حتى الآن؟ وما هي الاخطار الثلاثة التي تنتظر الجيش التركي في شمال شرق سورية؟ وهل ستواجه الحكومات الخليجية طعنات أمريكية مماثلة وقريبا؟

يصف كثيرون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ”الغباء”، وسياسته الخارجية خاصة في منطقة الشرق “الأوسط” بـ”الفاشلة”، وهذا التوصيف ربما يكون صحيحا لا جدال فيه، ولكن قراره المفاجئ بسحب القوات الامريكية (2000 جندي) من شمال سورية، ووصف الحروب فيها بالعبثية، والتخلي عن حلفائه الاكراد يعكس “مراجعات” استراتيجية، واعترافا بالهزيمة وتقليصا للخسائر التي بلغت حتى الآن حوالي 100 مليار دولار من جراء التورط في الحرب السورية.

الغزو التركي المتوقع في أي لحظة لشمال سورية للقضاء على قوات سورية الديمقراطية ذات الغالبية الكردية المصنفة على قائمة الإرهاب التركية لتحقيق عدة اهداف ابرزها إقامة منطقة آمنة بعمق 30 كم، وطول 500 كم، في العمق السوري، لإعادة توطين 3.5 مليون لاجئ يتواجدون حاليا في تركيا، هذا الغزو ربما يكون “مقامرة” كبيرة “مكلفة” من قبل الرئيس اردوغان تؤدي الى نتائج عكسية تماما.

الرئيس ترامب بقراره المفاجئ بالانسحاب من شمال سورية ربما قدم بذلك هدية مسمومة وملغومة الى الرئيس التركي، واستدرجه وجيشه الى مصيدة بالغة الخطورة، قد يصعب الخروج منها، تماما مثل المصيدة السعودية في اليمن، والامريكية في أفغانستان والعراق، مع تسليمنا بوجود بعض الفوارق، فترامب لا يمكن ان يغفر للرئيس التركي شراءه لمنظومات صواريخ “اس 400” الروسية، وتفضيلها على منظومة “الباتريوت” الامريكية المنافسة.
***
المخاطر على تركيا ستأتي من العديد من الجبهات والجهات أيضا، ومنذ اليوم الأول لدخول القوات التركية المتوقع ويمكن حصرها في النقاط التالية:

أولا: ستجد القوات التركية المهاجمة نفسها امام قوات سورية الديمقراطية العالية التدريب والتسليح والخبرة القتالية، فالولايات المتحدة اغرقتها بالعتاد العسكري المتطور، واشرف خبراؤها على تدريب عناصرها طوال السنوات الماضية على احدث المناهج العسكرية، اما الخبرات القتالية فاكتسبتها من خلال حرب دموية شرسة خاضتها بدعم امريكي ضد “الدولة الإسلامية” او
داعش”، ونجحت في إخراجها من مقرها الرئيسي في مدينة الرقة، وانهاء وجود دولة الخلافة، واعتقال الآلاف من مقاتليها.

الثانية: الكلفة الاقتصادية والمالية الباهظة التي يمكن ان تترتب على هذه العملية الهجومية، ثم بعد ذلك إدارة المناطق التي ستخضع للسيطرة التركية، وتقديم الخدمات العامة لمئات الآلاف، وربما ملايين المواطنين في هذه المنطقة، سواء من المقيمين، او الذين سيتم ترحيلهم من تركيا اليها، فالقيادة التركية كانت تخطط لتحميل الولايات المتحدة جزءا من هذا العبء المالي عندما اتفقت معها على المشاركة في إقامة هذه المنطقة العازلة، ولكن الانسحاب الأمريكي القى بهذا العبء المالي كاملا على الجانب التركي في وقت يعاني اقتصاده من أزمات اقتصادية ربما تتفاقم اذا نفذ السيناتور ليندسي غراهام تهديداته بفرض الكونغرس عقوبات اقتصادية على تركيا عقابا لها على هذا القرار مثلما هدد اليوم.

الثالثة: احتمالات دخول الجيش العربي السوري الى الميدان، والانخراط في مواجهات أنية او لاحقة مع القوات التركية “الغازية”، فقد حذرت القيادة السورية من انها لن تسكت عن أي اختراق تركي للسيادة السورية، وستتصدى لاي هجوم.

الرابعة: في حالة نجاح الهجوم والسيطرة بالتالي على المنطقة المستهدفة كاملة، فان الحكومة التركية ستكون مسؤولة عن قنبلة موقوته ممثلة في وجود آلاف من مقاتلي تنظيم “داعش” المعتقلين في سجون الاكراد، فكيف ستتعامل مع هؤلاء؟ هل ستقدمهم الى المحاكمة وتصدر احكاما بسجنهم؟ وتحمل نفقات احتجازهم؟ وأين في شمال سورية ام في تركيا نفسها؟ خاصة ان جميع هؤلاء، والأوروبيين خاصة، ترفض عودتهم.

حالة الصمت التي تسود أوساط الحليفين السوري والروسي تجاه هذه النوايا التركية باقتحام شمال سورية عسكريا تطرح العديد من علامات الاستفهام.. فهل هذا الصمت دليل الموافقة، ووجود “تفاهمات” مسبقة جرى التوصل اليها في قمة انقرة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية، ام انه عائد الى التمسك بفضيلة التريث والانتظار، لان الرئيس اردوغان هدد أكثر من مرة في السابق بهذا الغزو، ولكنه عاد وتراجع في اللحظات الأخيرة.

هناك سيناريو تردده بعض الأوساط التركية همسا يتحدث عن “مقايضة” تمت برعاية روسية اثناء قمة موسكو الأخيرة، مفاده غض النظر عن الاجتياح التركي لشمال شرق سورية مقابل غض نظر تركي مقابل للهجوم السوري الروسي المتوقع لاستعادة محافظة ادلب كاملة، وبما يؤدي الى لجوء عناصر الجماعات المسلحة المسيطرة عليها الى الحزام الآمن شمال شرق الفرات، ولكن مصادر سورية جرى الاتصال بها استبعدته، أي السيناريو المذكور كليا، وقالت ان الجيش العربي السوري سيستعيد ادلب، مثلما سيتصدى لاي احتلال تركي لكل بقعة ارض سورية سواء في الشمال الغربي او الشمال الشرقي، ويحررها مثلما حرر اكثر من 85 بالمئة من التراب السوري حتى الآن.
***
سحب ترامب للقوات الامريكية من سورية وإخراج بلاده من هذه “الحرب العبثية” ليس طعنة مسمومة جديدة في الظهر الكردي الذي لم يتعلم مطلقا من طعنات أمريكية سابقة، وربما يكون أيضا مقدمة للانسحاب العسكري الكامل من المنطقة برمتها، سواء من العراق او السعودية او الكويت، وكل القواعد الامريكية في منطقة الخليج، وتنفيذا للوعود التي تعهد بتنفيذها ترامب اثناء حملته الرئاسية.

فعندما ينقل ترامب مقر قيادته الجوية من قاعدة العديد في قطر الى الأرض الامريكية، ويسحب حاملات طائراته وسفنه الحربية من منطقة الخليج الى المحيط الهندي، ويقول انه لا يقبل أي لوم من الاكراد على غسل يديه منهم والتخلي عنهم، لانهم حصلوا على المال والعتاد العسكري مقابل قتالهم لداعش تحت الراية الامريكية، فهذا يؤشر على ان الرجل قرر الرحيل وترك منطقة الشرق الأوسط لحروبها العبثية، ولأطرافها لكي يقلعوا شوكهم بأيديهم.

تخلي ترامب وبهذه السرعة والسهولة عن حلفائه الاكراد يجب ان يكون “فألا سيئا” لحلفائه العرب في السعودية ومنطقة الخليج كلها الذين راهنوا على الحماية الامريكية، فخناجر ترامب المسمومة جاهزة للطعن في الظهر والصدر أيضا، والمسألة مسألة أولويات وتوقيت.. والله اعلم.

نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس