بقلم/ جميل مفرِّح
من حقنا ويجب علينا أن نعيش حياتنا نحن وليس حياة سوانا من البائدين والتالفين، أعني السالفين، وأن نرمي بأبصارنا صوب الآفاق هنااااااااك حيث المستقبل، حيث غدنا وغد أنجالنا وأجيالنا..

لا يمكن أبداً أن نمضي للأمام ووجوهنا ميممةٌ باتجاه الماضي البائد من خلفنا.

فليكن منا جميعاً قدوةٌ، إن اختلفنا على القدوات، وليكن فينا من يؤدبنا، إن تشابهت علينا الأبوات..
لا يوجد في الأرض مجتمع بلا قانون.. فليكن القانون وعاءنا، أو لنكن نحن أوعية له.. لا يهم ما دام سيشكل ملتقى لنا وسقفاً لطموحاتنا وحداً لسلوكنا..

الفطرة بذرة تتطور في نموها تطوراً إيجابياً، حيث لا وراء ولا ماضي في برنامجها، تسير في تطورها حسب جدول منتظم، لا يتسابق ولا يتوقف ولا بإمكانه التراجع والتكرار.. تصل البذرة إلى أعالي الزهر، وحين تنظر للأسفل تسقط لتجد نفسها من جديد في الفناء.

كثيراً ما نجد أنفسنا متعثرين في الخانات الصفرية، فنبحث في ثنايا التاريخ عن أمثلة وأعلام نحملها أوزارنا تارة، ونختلق استناداً إليها ما أمكننا وتوفر لنا من الأوزار والخطايا والعثرات تارة أخرى..

نبحث بتعطش الكسالى في الفناء عن زوايا ضوء ننفذ منها صوب الحياة ونواجه بها الواقع، ونحاول عبرها أحيانا هدم وأحياناً تعزيز حقائق انتكاسنا ونكوصنا، نمتطي متون كل الذرائع المتاحة لنبرر إخفاقاتنا، ولو كلفنا ذلك إعادة كتابة التاريخ بما يتوافق وعجزنا المخزي.

نفتش حتى في خامات ومكونات الورق والجلود التي حملت إلينا التاريخ، بحثاً عن رموز وأساطير وخرافات، حتى وإن كانت تلك اللقايا بالية أو بائدة، لا تضيف لحاضرنا أو مستقبلنا شيئاً غير الخصومات والخلافات والتشظي الذي ندرك كل الإدراك أن ليس وراءه إلا النكوص والتداعي..

نبحث عن نبي أو ولي أو إمام، عن فارس أو فلكي أو حتى مشعوذ، عن كاتبة أو شاعرة أو حتى راقصة لنتغنى بهذا وتلك وهذه وذاك، محاولين إثبات أننا ورثة مجد ونستحق أن نمتلك العالم، حتى وإن كانت ظهورنا وجنوبنا والأرض من حولنا قد ملت منا وقرفت من عجزنا..

أي كائنات بل أي أشياء نحن بالله عليكم..؟!
إننا في الحقيقة لا شيء، أصفار متورمة أو بالأصح متقيحة، لا نستحق حتى أن تستمر بنا الحياة، لأننا عار وعالة عليها.. معاقون تماماً إعاقة اختيارية، وضعنا أنفسنا فيها صماً بكماً عمياً، وفوق كل ذلك متنطعين مستغلين أدعياء، نشعر أحياناً حين نواجه أنفسنا، أننا لا نستحق حتى الأسماء التي ننادى بها..

أكثر ما نستطيعه ونجيده، إراقة دمائنا إما معتدين أو ضحايا وفي كلا الحالتين نتوسل بالشهادة والجنة وبالقدوات من أنبياء وصالحين وقادة، وبتاريخ لا نتوانى، جيلاً بعد جيل، عن إزاحته وتنميقه وتعديله بما يتوافق مع رغباتنا، وبما يتساوق مع الهزائم التي ننام ونصحو مع وعلى هاجسها..

أكبر إنجازاتنا وانتصاراتنا اليوم هي تلك الغارات التي غزونا ونغزو بها التاريخ والحقيقة، لنقتاد الحق والعدل والسماحة والاعتدال وكل ماهو مثالي رهائن وسبايا، تحت رايات وتبريرات لا سلطان بها ولا عقل يجيزها.. وعهدنا أننا لم ننم ولن نستكين حتى تخلو ساحة السرد والحكي من كل ما يعني الحقيقة أو يتشابه معها، ويصير التاريخ ركاماً معلولاً وعاجزاً مثلنا بالضبط..

أولاً وتالياً وأخيراً.. يقول المنطق أن علينا أن نكون حقيقيين ولو للحظة واحدة في الحياة، وأن نعترف بعدميتنا المطلقة واتكاليتنا المؤسفة، وألا ننكر أننا نرتهن للباطل والجمود والخذلان ما نستطيع.. وأن الوجود كان وسيكون أفضل بدوننا..

وأن نؤمن ونعلن إيماننا بأننا لا ولن نضيف ولا ولن نورث لمن سيخلفنا من الأجيال شيئاً يكاد يكون ذا قيمة، إلا لو افترضنا إمكانية تحللنا كالدناصير وتحولنا إلى ليترات قليلة من الوقود الذي سيأتي أيضاً في غير أوانه والحاجة إليه..

كما وعلينا أيضاً، لنرضى وإنْ قليلاً عن أنفسنا، أن نبدأ، ومن هذه اللحظة، كتابة ولو صفحةً واحدةً من التاريخ الحقيقي، وذلك بالإقرار بأننا اليوم مجرد غبار يتطاير في الهواء، وأقصى ما ينجزه أو يكون عليه الشر.. وأننا مجرد أذى فائض عن الحاجة، ستظل تشتكي منه أعين ورئات التاريخ لزمن غير قصير.

و....، ....، ....، السلام على كل من يستحق من دوننا السلام.

حول الموقع

سام برس