سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني
الأديب محمد المصمولي في بورتريه كتابي لشاعر يستنشق الكتابة يلوذ بعطورها في دواخله ...
كاتب لا يعنيه من الأمر سوى حبر الأيام السائل المتشكل بالنهاية على البياض مقالة و قصيدة..

هي السيرة...و المسيرة تنحت كلماتها العالية تقصدا للكيان يتأصل و للوجدان يمنح العناصر ألوان الهبوب حيث لا مجال لغير القول بالنشيد الخافت و الصور في ضروب من علو ...منها الشعر كفن متخير و محيل لعوالم الابتكار و التجدد..

هكذا هي الكتابة عند صاحبنا الصوت الشعري النادر في كوكبة الطليعة من حيث حفاظه و انتصاره للغة الصافية و الصور المخصوصة بما جعل تلك القصيدة محصنة عن الهبوط المدوي للنزعة العابرة و على نبل مقصدها الانساني الا أن الفن يظل فنا و الابداع مهما علت غاياته الهادفة يظل خاضعا للمعيار الجمالي و فقط...
نعم من تلك الحقبة في السبعينيات من القرن الماضي و الى الآن ظل على نهجه الشعري
الذي تصحبه نصوصه الدورية بالصحف التونسية ...ظل الكاتب الشاعر و هو ما جعل تجربته بعد كتب متعددة تشفع بعناية من حيث تجميعها في " الأعمال الكاملة " بأجزائها الثلاثة ...

حين أهداني هذه الباقة عادت بي الذكرى الى لقاءاتنا المتعددة بالروتندة و بالتيراس قبالة مكتبة الكتاب و بالمقاهي الأخرى و نحن نتجاذب أطراف الكلام بشؤون الشعر و النقد و الصحافة و الساحة الثقافية و اتحاد الكتاب و...غير ذلك كثير...كنت ألتقيه في التسعينات و هو مدير دار الثقافة المغاربية ابن خلدون خاصة في أسبوع الأغنية الملتزمة فضلا عن مجالس الدار بخصوص الشعر و المسرح و السينما و الموسيقى...
في هذا التتويج للمسيرة المفتوحة كعادتها على الكتابة ...أهداني باقة تجربته و هي أجزاء ثلاثة من الأعمال الكاملة و التي صدرت بدعم من وزارة الشؤون الثقافية و عن الدار التونسية للكتاب .

هذا هو الرجل الذي ظل على طفولته المفعمة بالصمت الملون بحرقة الكتابة و لا شيء يقطعها..هو الصديق الأنيق في نبرة صوته الاذاعي و التلفزي و في حضوره النوعي حيث يستمع و يصغي اليك أكثر مما يتكلم و على عكس عديد الكتاب من جماعات " دمرتني المدينة " و في الحقيقة هم الذين دمروها اذ لم يصغوا كما ينبغي لايقاعها و تفاصيلها..هذا الطفل الشاعر المأخوذ بالكتابة و ظلالها الملائمة هو محمد المصمولي الذي يمضي عادة ب م .م.
في الجزء الأول الذي يحوي 320 صفحة نجد " قصائد مضادة و أشياء أخرى و في الجزء الثاني الذي يحوي 375 صفحة نجد " كلمات و رؤى " و في الجزء الثالث الذي يضم 314 صفحة نجد " وشم على الذاكرة "...
قصائد مضادة و أشياء أخرى ضم مقدمة الناقد الدكتور محمد صالح بن عمر عن تجربة صاحبنا و نجد بعدها دواوينه و هي " رافض و العشق معي " و " في الصمت متسع من الكلام " و " بياض الورقة " و التي منها هذا الكلام الشعري

"...محفورة كلماتك
في اتجاه الضياع
أيها الشاعر
و الحيرة وطنك..."
مقدمة الدكتور محمد صالح بن عمر مسحت حوالي 15 صفحة و بعنوان " المقومات النوعية للقصيدة المضادة و من ها ما يلي "...و هكذا فان محمد المصمولي في هذه القصيدة قد انطلق من تجربة ذاتية في مضمار الحياة اقترنت لديه بحس حداثي نابع من الانصات الى نبض العصر و الحرص على التكيف معه . فكانت ممارسته للتجريب عندئذ تلقائية طبيعية استجابة لدوافع داخلية حقيقية لا مسايرة لتقليعة وافد عابرة.......".
الجزء الثاني و نعني الكلمات و الرؤى من هذه الأعمال تصدرته مقدمة للكاتب و الناقد شرف الدين البوغديري و بعنوان " المصمولي ناثرا - مقاصد الحاداثة / مقاصد الابداع "
و منها "...و من عرف شاعرنا محمد المصمولي فلا بد أنه عرفه مدمنا على الجلوس في المقاهي لكتابة نصوصه الملزم بانجازها لوسائل الاعلام من صحافة و اذاعة و تلفزة و و هي عادة أوروبية متداولة عرف بها كتاب فرنسيون في الحي اللاتيني مثا سارتر و سيمون دي بفوار و رامبو من قبل الخ...في هذا السياق يذكر المصمولي قولا لرولان بارت " المدينة هي الكتابة " .
الجزء هذا ضم جملة مقالات المصمولي التي صدرت في الدوريات و التي كانت ذات لون ثقافي سياسي اجتماعي ضمن الكتابة الاعلامية التي مارسها و ظل الى اليوم على وفائه الدال لها باعتبارها روافده الأخرى بعد الشعر و معه...
الجزء الثالث كان بعنوان " وشم على الذاكرة و قد أهداه كما يلي " الى ابني المهدي الذيصعد الى السماء في زمن الورد " ...الكتاب ضم جملة من نصوص المصمولي و ما كتبه النقاد و الشعراء عنه و منهم فرج الشاذلي و عبد العزيز قاسم و حسين العوري و علي دب و قد جاءت مقدمة الكتاب بقلم الكاتب و الناقد عبد العزيز بن عرفة و ذلك بعنوان هو " الصوت أداء أسلوبيا و تعبيريا لدى محمد المصمولي و نقتطع منها ما يلي " ...الى جانب بهاء صوته فان سلوك المصمولي هو سلوك الهارب المتواري اذا جالسك فانه لا يديم الجلوس و اذا تكلم لا يديم الكلام انه لا يحضر الا ليتوارى في الغياب...هذا الامعان في الغياب يضفي على تصرفاته شيئا من الجاذبية ...".
الشاعر و الاعلامي محمد المصمولي من الأصوات الشعرية البارزة في الستينات وبالخصوص ضمن تجربة الطليعة الأدبية وله مجموعات شعرية الى جانب اسهاماته الاعلامية والنقدية بشأن المشهد الشعري والأدبي التونسي..الحديث عنه تجربة و كتابة يجعلني أستذكر ما قلته بشأنه في نص سابق و منه "...تميّزت حركة الشعر التونسي الحديث بتنوع ألوانها وتفاعلاتها في مستويات التجريب والمغامرة والبحث ذلك أن شعرنا هذا قد أفاد كثيرا من موقعه كشعر مجاور ومتحاور مع تجارب أخرى خصوصا بالضفة الشمالية للمتوسط وتحديدا بفرنسا...
لقد أفادت حركة شعرنا كثيرا من هذا الشعر الوافد سواء في لغته الأصلية أو من خلال الترجمات ضمن سياق ثقافي من عناوينه الحداثة...
في فترة أواسط الستينات وقبل بروز تيار في غير العمودي والحرّ المتّصل بحركة الطليعة كان هناك نزوع لدى بعض شعراء تلك المرحلة للبحث عن أشكال شعرية فيها الفرادة والتميّز والخروج عن نهج من الكتابة الشعرية التي اتسمت بتقليديتها وكلاسيكيتها خصوصا أمام هواجس فنية وفكرية طبعت الحقبة المذكورة.
في هذا السياق من الحالة التجريبية نذكر كتابات الشاعر محمد المصمولي التي تميز بها عن شعراء جيله من حيث الرغبة في الفرادة حيث يقول عنه الدكتور محمد الصالح بن عمر الباحث في هذه المجالات الشعرية التونسية: « هذا التجديد في الشكل الذي أقدم عليه محمد المصمولي ستّ سنوات قبل ظهور حركة الطليعة، لا تكمن أهميته فحسب في محيط ثقافي محلي كانت تطغى عليه الذائقة الشعرية الكلاسيكية بل إن له مبرّرا اعمق وهو ما كان يعتمل في ذهن الشاعر زمنئذ من هموم فكرية لم يكن من المتيسّر له التعبير عنها بالدقّة نفسها لو اختار أحد الشكلين: العمودي والحر... وتنطوي هذه المفارقة على نزعة قوية لديه الى تجاوز الانماط الشعرية السائدة لا بتبني نمط جديد صمّمه آخرون في الغرب أو في الشرق او حتى في تونس.... بل باستحداث نمط شخصي ملائم لحساسية الشاعر الفنية ونوعية تجربته في مضمار الحياة...»
بعد عمله الشعري الأوّل الذي مهره بـ " رافض والعشق معي " والذي كان له الصدى الهام في السبعينات صدر للشاعر محمد المصمولي ديوان شعر بعنوان «في الصمت متسع للكلام» وذلك عن دار اشراق للنشر تضمن 112 صفحة وهو من الحجم المتوسط.
لقد جاءت قصائد هذه المجموعة من حيث التيمات واللغة والتوزيع والطقس العام متناغمة مع ذات الشاعر المصمولي المعروف بنزوعه الى الخروج عن العادي وجرأته في تناول مختلف الحالات شعريا حيث تبرز التعائد عنده مشحونة بالدلالة وبالعبارة وهو المعروف بصمته المهيب الذي يخفي واحات من الكلام.
ليس قفلا...
ضجيجكم
يا أصدقائي
ليس قفلا
يوحي أحلامي
فأنا أصغي اليكم
من أعماق صمتي
وأحس بحرارة اختلاجاتكم
ورفيق اجنحة اخيلتكم
في هذه المجموعة يقف الشاعر باعتداد لغوي مبتكر ضمن جيله ومن سياقاته اليومية يمضي مع أشجانه الخاصة وهموم الناس واطفال الحجارة حيث اللغة في هدوئها وايقاعها المطمئن وهي تقول شيئا من الضجيج والقلق والحنين والغضب وصولا الى جرائم الأرض.
صاحب الغليون يأخذك بالقصيدة الى أموال هذا الكائن المتناقضة والمربكة ولكنه يسخر منها...

كذا أنا
في كل حين وآن
يغضبني
الى حدّ الضحك
أنني
لا أغضب
ويضحكني
إلى حدّ الغضب
أنني لا أضحك
وهذا الحبر
الذي به أكتب
محض دم
يسفك...

الشاعر محمد المصمولي يدعو قصيدته إلى بيته الحرّ بالكامل فلا يملي شروطه سوى بالمضيّ إلى الحالة على هيئتها وكما هي فقط هو يرتّب زمانه ومكانه ولا تهمّه سوى الكلمات هذه التي يريدها ضاجّة في سلاستها وهدوئها وهنا نكمن شعرية هذا النمط من الكتابة.
في قصيدة وحيدا أتعدد، يأخذنا محمد المصمولي إلى حالاته الشتى من يوم إلى آخر بحسب ترتيب أيام الأسبوع فتقرأ في الأحد مثلا:
«وحيدا رفقة صمت البيان، أعقد جلسة مضيقة مع اشتعالي وأصغي إلى ثرثرة الدّخان....».
وفي يوم الإثنين نقرأ: «وحيدا صفقة بيان الصّمت ، أتوحد مع ثنائية الشيء وضدّه، وأحدّق في أحلامي المبللّة بقطر الندى وأتجاوز عصر الرّواة...».
وفي اليوم الأخير من الأسبوع نقرأ:
«وحيدا، رفقة الأشجار التي لا تموت الا وهي واقفة ، أمشي في جنازة الجندي المجهول، وأنا أستحضر بذاكرتي بعض الحروب التي لم أخضها ، وفات أوانها.».
إنّها الكتابة الشعرية المخصوصة التي عرف بها محمد المصمولي حيث التقاط اللّحظة في تجلّياتها المتعددة بلغة ساخرة ولكنّها متألمة ترشح بأشجانها :

صاحب الغليون أيضا: «قررّ أن يضحك وهو جالس على حافة زفرة... متخفّية داخل صدره، بعيدا عن الانظار... قرّر ذلك هكذا .. قرّر أن يضحك من أيّ شيء حتى وكان مثيرا للغضب، كما كان يفعل ذلك الذي قيل عنه، إنه يضحك من حماقات الجنس البشري ، ويضحك من أجل أن يكون جادا...».

هذا هو المصمولي الانسان والشاعر..و يقول عنه الأديب العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي في نص عن عمله الشعري هذا.."...ومع كل لقاء لنا وكثيرا ما نلتقي أو أُستضاف في برامجه، أعاتبه لمغادرته الشعر فكان يجيب ان لديه قصائد متناثرة هنا وهناك، يكتبها ويركنها، لذا تحول عتابي الى حثّ له بأن ينشر ما كتب، يستعيد دورا أسس له، يومها كانت قصيدة النثر محرّمة «يتطاول» على مقامها النظّامون حتى البائس منهم.. ثم أخبرني انه دفع للنشر ديوانه الثاني الذي اختار له اسم «في الصمت متسّع للكلام» وما أبلغ الصمت الذي فيه متسع للكلام، كيف لا؟ ومحمد المصمولي هو أحد أجمل الصامتين لكنهم في الآن نفسه الناطقون بالعذب من الكلام إذا ارتأوا أن ينطقوا.

يسمي الناقد د. محمد صالح بن عمر قصائد مصمولي «القصائد المضادة»، وبما أن بن عمر قد عاش فورة السبعينات الأدبية التونسية ناقدا حيث صوت «غير العمودي والحر» وصوت طاهر الهمامي ورفيقه الحبيب زناد وغيرهما وحيث بواكير قصيدة النثر (خالد النجار ومحمد أحمد القابسي مثلا) فإن بن عمر رأى في تجربة مصمولي انها تمثل استحداث نمط شعري جديد (شخصي ملائم لحساسية الشاعر الفنية ونوعية تجربته...قد لا تحمل قصائد مصمولي في ديوانه الجديد تلك الاضافات المبهرة لقصيدة النثر التونسية بعد أن مضت في مديات متعددة وكثر شعراؤها ورفع عنها الحظر وتقزّم مناوئوها، ولكنها تظلّ تمتلك حساسية قيم التأسيس الأولى من (مدّ وجزر) ...".

هذه هي الأعمال الكاملة التي ترسم جانبا من البورتريه الكتابي لشاعر يستنشق الكتابة ليلوذ بعطورها في دواخله بعيدا عن الأنظار و لا يعنيه من كل ذلك سوى حبر الأيام السائل المتشكل بالنهاية على البياض مقالة و قصيدة..

حول الموقع

سام برس