سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني

اللون ممحاة لدرء النسيان و القول بالقيمة كجوهر و حقيقة..ما الذي يحدث حولنا و بيننا وبنا في هذا البرد الكوني و حيث العولمة الموحشة تطبع الأجسام لتتركها شبيهة لا خصائص و لا ترجمان و لاذكرى ..
من هنا يقف الفنان يفعل بتعبيراته في سباق مع ألة السقوط و الهدم و النسيان..يقف بوجه الخراب ينثر الأفكار ..لتصير ورودا..يقطف معاني الحلمم النبيل و لا يلوي على غير القيمة و الكيان في جهد تحديدي و تأصيلي ..يمنح الكائن و المكان المكانة ..يلقي بالحصى في النهر ..يسخر من الآخر..هذا الآخر القاتل..للمهجة و الذات و مشتقات حسن الاقامة على هذه الأرض..

ماذا يقول الكائن أمام ظلاله المنثورة و المنذورة للنسيان.. هي رحلته بعد غربة المرايا ..ثمة اذن ما يفي بالنظر و بالمتعة ..اليومي..القلق..الوجوه..المجموعة ببردها كما بحرارتها..الفرد بحرقته..الوجد و الكينونة..و غيرها..أسئلة مشروعة و صعبة و عناوين لأحلام عالية..غامضة في وضوحها و بسيطة في تعقيداتها..و لكن هل يكفي الكلام لشرح الحالات و الأحوال..
و الفن هنا هو عنوان و ترجمان و حمال..عنوان ابداع و ترجمان حضور قوي و حمال أفكار حتى لا تعم الفوضى و الخديعة و تتخلص الذات من أدران الزمن و ما علق بها من فجيعة و سقوط...و أيضا ما كساها من....صديد..
انها لعبة البحث عن اللمعان ..و التوهج بعيدا عن الالغاء و التغييب فلكل العناصر وز التفاصيل و الأشياء ..أمكنتها لدى الكائن الذي لا يمكنه أن يذهب مع الأصوات التي لا تفعل غير اللهو بالقتل و التغييب و الالغاء..

أنت ..أيتها الذاهبة الى النسيان
العائدة من النسيان
مزقني الخجل و الحب
و صرت كشهقة اللون في سراب اللغات
حسنا..............
و لكنني
دافئ كليالي الشتاء ...
سوف أراوح بين المعنى و المعنى
حتى اذا قالت الفصول أشياءها...
كنت.. أنت القصيد..
الآن ألج عوالم الفنان..الذي التقيته من سنوات بعد اطلالة ساحلية على الوطن الجميل..كان طفلا مسكونا بالمعاني المذكورة ..
كان طفلا كبيرا لم تفعل فيه سنوات الغربة شيئا غير أن تمنحه القدرات العميقة على فهم الحالة الانسانية السوسيولوجية و الثقافية التونسية بحميمية الفن و نار السؤال و جحيم المغامرة..هو يتهجى الينابيع بحثا عن المفردة التشكيلية الملائمة..

لقد كان اشتغال نجيب و منذ سنوات على مشاكل الهوية التي تضيع من الكائن ببساطة ليغدو معها رقما و حالة من الضياع و ذلك في شتى الاحوال و التمظهرات الفردية و الجماعية..هو انسجم مع جدية المسألة و لم يعد يعنيه سوى العنوان الخطير للاندثار و التشييء ..لذلك كانت لوحاته ( التي ستكون بالمعرض ..و غيرها من أعماله ) مجالا للامساك بالجوهر الغريب في الحكاية..و بالتالي جاءت شخوصه التشكيلية مبتورة و متوترة و غائبة الملامح و طغت فقط ملامحها التجريدية في ضرب مما ينطبع على قماشة النفس ..نفس الفنان من ألم تجاه هذه الأكوان التي تمضي بالانسان من الحالة الى الآلة و تلقي به في النهاية في متحف مهجور..كرقم ضمن بقية الأرقام..

نجيب بوقشة يتعاطى جماليا مع عمله ضمن هذه التجربة بتلك الفسحة من التعبيرية و الانطباعية ضمن وعي تجريدي باذخ تبرز معه و وفق تقنيته التشكيلية الكائنات و الشخوص التي يتقصدها و يستهدفها ابداعيا بما يشير اليها من أشكال تامة بنقصانها حيث يترك للمتلقي اتمام و تخيل بقية عناصرها و جزئيات الفضاء و هي متممات لا تعني نجيب الفنان بل هو يقحم القارئ للحات في جوهر اللعبة المدهشة التي تدور حول السؤال ..سؤال القلق و الشقاء..و التعب..شخصيات لوحاته ( بما في اللوحة من حكايات ) قلقة و محبطة و هي أشبه " بالأطلال البشرية " و هنا يحملها بالمعالجة الفنية و الجمالية الى عوالمها النورانية من حيث نبلها و أحلامها و حتى خساراتها الجميلة التي هي عوالم الاعتبار..المواطنة بعبارة أخرى بعيدا عن أختام العولمة.." الماتريكيل "..أو الرقم الألي..
هي الصرخة العارمة التي يطلقها نجيب..هي بمثابة الصدمة المدوية و القاتلة و لكن الخلاقة أيضا حيث يعود الفنان الى دفء ألوانه و مفرداته التشكيلية بوعي مغامر ..

حالة ثقافية بارزة تكشف شيئا من ألقها المعرفي و الحضاري و الوجداني و بالتالي الابداعي تجاه التشييئ لأجل استعادة الانسان لجواهر فكره و وجوده و دوره بعيدا عن التنميط و التحنيط و هنا نلمس تلك الشحنة من الحيوية و الحركة في اللوحات ..و أعني الحرية بالنهاية كقيمة تمتد بين الحياة و القماشة ..أي في الزمان و المكان و في الحيز الجمالي و المساحة التشكيلية..هنا تحرك نجيب..و على عبارة نيتشة هكذا تحدث بوقشة..
أعمال أخرى بالأكواريل تكشف عن طاقة تعبيرية جميلة و محببة في تجربة نجيب بوقشة فيها اعادة كتابة المكان لونيا حيث المتعة في تخير المشهدية و الضوء..و في مراوحة بين الأعمال المنجزة و المحلوم بها يبتكر الفنان بوقشة حيزا من عالمه المسكون بالانسان..و لكن بكثير من الكد الجمالي بعيدا أيضا عن الكثير من الأعمال الملتزمة و لكنها خالية من القيمة الفنية و التشكيلية..

انها رحلة الفن..العميقة..و الفنان يترجمها بعد الاكتواء بتفاصيلها ..الى جمال نوعي..
في هذه الفسحة من أعمال نجيب شيء من البوح..هو البوح بالفجيعة و الصراخ انحيازا للحالة على حساب الآلة ..و الرحلة بالنهاية هي اقامة قلقة بين الوردة...و السكين.

حول الموقع

سام برس