بقلم/ سعدية مفرح
ثاني أسوأ تصريح فرنسي صدر في خضم أزمة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أخيرا، هو الذي اعتبرت فيه وزارة الخارجية الفرنسية دعوات مقاطعة مسلمين كثيرين المنتجات الفرنسية "لا مبرّر لها ويجب أن تتوقف فورا، على غرار كل الهجمات التي تتعرّض لها بلادنا، والتي تسخرها أقلية متطرفة". يسبق ذلك التصريح في قائمة السوء تصريح الرئيس الفرنسي، ماكرون، إن بلاده لن تتخلى عن تلك الرسوم، وإن المعلم الذي عرضها، قبل أن يقتل لاحقا جرّاء ذلك، هو وجه فرنسا!

اعتبرت الخارجية الفرنسية أن دعوات المقاطعة، ومعظمها دعوات فردية، "تشوّه المواقف التي تدافع عنها فرنسا من أجل حرية الضمير وحرية التعبير وحرية الدين ورفض الحضّ على الكراهية". ولا أدري كيف يكون التناقض المبدئي، إذا لم يكن هو ما يعبر عنه هذا البيان المتعجرف، فهو يطالب بمنع حرية التعبير دفاعا عن حرية التعبير، وهو بالضبط ما بادر إليه أولا الرئيس ماكرون الذي حضّ بخطابه على الإساءة لكل المسلمين وحريتهم في التعبير عبر تعزيز ما اعتبره حق المعلم القتيل في حرية التعبير.

وعلى سبيل تبنّي الموقف الفرنسي، كما يبدو، والتهوين من فعل مقاطعة المنتجات الفرنسية في الأسواق العربية أخيرا، يردد بعض العرب والمسلمين مقولة إن المقاطعة فشلت دائما، وستفشل هذه المرة أيضا في تغيير ما يود المقاطعون تغييره. هذه المرّة بدأت المقاطعة في الكويت أولا عبر مبادرة أكثر من خمسين جمعية تعاونية لرفع المنتجات الفرنسية من رفوفها، تعبيرا عن الاحتجاج على إساءة الرئيس الفرنسي، ماكرون، لمقام النبوة بنشره للرسوم المسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على جدران بعض المباني الفرنسية. وسرعان ما تجاوب كثيرون، أفرادا ومؤسسات وجماعات، لدعوة المقاطعة. لكن الرافضين لها يقولون إن الامتناع عن شراء جبنة كيري الفرنسية ليس سوى وسيلة مضحكة، هدفها التخدير الذاتي وشعور المقاطع بأنه فعل ما عليه فعله دينيا وأخلاقيا لنصره نبيه، وأنها مضرّة أكثر من كونها نافعة.

أما الذين يتبنّون الحملة فيرون أن المسألة تتعدّى حدود جبنة كيري، وغيرها من السلع الفرنسية التي تمتلئ بها أسواقنا ابتداء من الطائرات وقطع الغيار الخاصة بها، (وهي المنتجات التي تأتي في طليعة ميزان التبادل التجاري بين معظم دولنا العربية وفرنسا)، وانتهاء بتلك الجبنة الشهيرة اللذيذة، فالمقاطعة فعل احتجاج، بغض النظر عن نتائجها في الواقع، وهي لا تبدأ من التاجر أو المورد المحلي الذي يعتقد كثيرون أنه هو الخاسر الأكبر فيها، بل تتعدّاه بالتأكيد لتصل إلى قلب الهدف في فرنسا، فالتاجر أو المورد المحلي سرعان ما يتجاوز خسارته الآنية، ويتوجّه إلى منتجات أخرى من أسواق بديلة. ثم أن الهدف الأساس من أي مقاطعة هو تعزيز قيمة التعبير الحر عن الرأي، ورفض الظلم عبر وسيلة سلمية، حتى لو لم تنجح بالكامل، فالمهم أنها تنجح في المساهمة بفرز المواقف الأولية والتعريف بها. وأنا، شخصيا، ألجأ إلى فكرة المقاطعة الذاتية كلما شعرت بعجزي عن الرد في كثيرٍ من مواقف الحياة، وكثيرا ما قاطعت مؤسسات ومحلات ووسائل إعلام .. وحتى زملاء وأصدقاء. وعلى هذا الصعيد، أشعر أحيانا أن المقاطعة نفسها ترفٌ حقيقي لا يتاح لي دائما ليكون وسيلتي للرفض! فما بالك إن كان محورها موقف أخلاقي وديني كبير؟

ختمت الخارجية الفرنسية بيانها بالقول: "هذه الدعوات إلى المقاطعة لا مبرّر لها، ويجب أن تتوقف فورا، على غرار كل الهجمات التي تتعرّض لها بلادنا والتي تسخرها أقلية متطرّفة". وهذه الدعوة وحدها تضرب الادّعاءات الفرنسية بحق الفرد بحرية التعبير في مقتل، يجعل من تلك الحرية هي الوجه الحقيقي للإنسان .. المغلوب على أمره في كل مكان وزمان.

حول الموقع

سام برس