د. ابتهال الخطيب
في الذكرى السادسة والستين لولادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي حلت في العاشر من ديسمبر الماضي، لنا أن نتذكر الكثير من الخطوات الإيجابية التي خطتها البشرية تجاه تعزيز كرامة الإنسان والتأكيد على خصوصية إنسانيته. لقد تغيرت النظرة الإنسانية لمفهوم الحقوق والواجبات تغيراً كاملاً منذ زمن قانون حمورابي البابلي والذي كان يعتبر ثورياً في المجتمع الإنساني، لتصل الآن لحد اعتبار هذا القانون جائراً لا إنسانياً لاعتبارات كثيرة ومبدئية بالنسبة لبشر القرن الواحد والعشرين. لقد تطور الفهم البشري لمفهوم الحقوق، بل تم إعلاء مفهوم الحقوق في هذا القرن الأخير على مفهوم الواجبات، حتى أن التقصير في الواجب لا يبيح الحرمان من الحق في الكثير من المجتمعات المتطورة.

إلا أننا ونحن نتذكر تحولنا الكبير على مدى الأربعة آلاف سنة الماضية، منذ أن بدأت المجتمعات الإنسانية الأكثر تحضراً بالتشكل وبترتيب أمورها من خلال نصوص القوانين البدائية التي لربما هي أقل بدائية من بعض قوانيننا المعاصرة، فعلى سبيل المثال يعرف المجتمع المصري القديم بقوانينه المنصفة والمتحضرة مقارنة بما نراه اليوم في بعض المجتمعات تجاه المرأة، فإننا يجب أن نعي كذلك بعد المسافة الحالية بين نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبين التطبيق، خصوصاً في دولنا الشرق أوسطية النامية. تقول ديباجة الإعلان بعد التأكيد على الحقوق المتساوية وعلى الكوارث الناتجة عن «تناسي حقوق الإنسان وازدرائها» إن «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم» فالتمرد طبقاً لوحي النص هو اضطرار لا يرغبه الإنسان، وهو يفرض على هذا الإنسان بسبب غياب القوانين الحامية له، أفلا تفصل هنا الديباجة دوافع الثورات وحركات التمرد، حتى تلك التي نراها متطرفة وغير عقلانية في عالمنا العربي؟

بالمرور على كل مادة من مواد الإعلان العالمي يتضح حجم الانتهاكات الإنسانية التي تمارسها دول العالم النامي تجاه شعوبها، انتهاكات أصبح لها طابع الاعتيادية اليومية، انتهاكات تذكر في الأخبار الرسمية والجرائد المحلية دون أن يرف بسبب اعلانها دع عنك وقوعها للمسؤولين جفن. المادة 16 مثلا تقول بأن «للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله» وهي المادة المنتهكة في أغلب الدول العربية والإسلامية حيث تبقى المرأة الطرف الأضعف المملوك في هذه العلاقة، هذا بخلاف القيد الديني الذي لا يبيح الزواج المدني في معظم الدول حتى ذات النظرة التقدمية منها مثل دولة لبنان. أما حرية تغيير الدين أو العقيدة والواردة في المادة 18 فتكاد تكون مقلوبة على عقبيها بوجود قوانين تصل لحد الإعدام، وإن لم ينفذ في الكثير من الدول، تجاه من يجرؤ على الإعلان عن تغيير دينه. تتكاثر الأمثلة وتتعدد الانتهاكات حول كل مادة من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي انتهاكات لا تخص العالم العربي والإسلامي وحده بكل تأكيد، الا أنها فاضحة واضحة في هذا العالم، مرتفعة الصوت، لها من يؤيدها بحجة الخصوصية، ولها من يحاجج في صفها بحجة قوانين إلهية يراها أصحابها أعلى من تلك الوضعية، بل ولها من يحميها ويكرس نفسه لخدمتها، أحياناً مؤسسات بأكملها وليس أشخاصا، وأحياناً جهات رسمية وليست مجتمعية، بحجة المحافظة على توازن المجتمع وثبات تقاليده.

لا تجد اليوم الكثيرين في العالم الغربي ممن يدعون كمال المنظومة الإنسانية في مناطقهم، لكنك لا تجد كذلك الكثيرين ممن يمكن أن يحاججوا في صحة مواد الإعلان العالمي أو يناهضوا توجهاً من توجهاته. يتفهم العالم أن الإقرار بالحقوق لا يعني بالضرورة فرضية ممارستها، فالإقرار بالحق الإنساني هو اقرار بالدرجة الأولى بأحقية الإنسان في الاختلاف وفي اختيار ما يتضاد مع معتقدات وأعراف الأغلبية، وها هو العديد من الكنائس ذات التوجهات المختلفة، ومنها الكنيسة الكاثوليكية، تراجع اليوم مواقفها تجاه أمور عدة كانت تعتبرها مسلمات محرمة لا يمكن في يوم القبول بها مثل موضوع الطلاق وتولي المرأة المناصب الكنسية القيادية وزواج المثليين وغيرها. وعليه، ليست مشكلتنا الرئيسية هي في الانتهاكات، فتلك موجودة ومستمرة في كل أنحاء العالم على درجات مختلفة، بل إن مشكلتنا تتركز في الافتخار بهذه الانتهاكات، في التمسك بها والتأكيد على أحقيتنا في استمراريتها لأن لنا أعرافا خاصة، وتقاليد معينة ودينا مختلف، فسلمنا رقابنا بأنفسنا لحكومات استعانت بضيق أفقنا علينا، فما أن ننطق حتى يظهر وعاظ السلاطين ويمسكوننا «من يدنا الموجوعة» فهذا حرام وهذا عيب وهذا خروج عن العرف، وهكذا تضيع الحقوق، وتتصاعد الانتهاكات، ونعلنها نحن بلا خجل أن الحقوق بمقاس والانتهاكات…حق. الخطوة الحقيقية الأولى تجاه أي تطور أو تغيير هي تلك التي تأخذها الجماعة القادرة تجاه الفرد الأضعف، فتبدّيه على نفسها، تعلي من رأيه وتحترم اختلافه مهما بلغت درجته، عندها نصبح مجتمعاً انسانياً حقيقياً، وعندها فقط يكون لنا أن نتطور.


القدس العربي

حول الموقع

سام برس