بقلم /د. مصطفى يوسف اللداوي
جاء قرار إلغاءِ إجراء الانتخابات الفلسطينية، التي كان من المقرر إجراء مرحلتها التشريعية الأولى بعد أيامٍ قليلةٍ، صادماً للشعب الفلسطيني، فأصيب بالذهول والغضب، وحل به الإحباط والسخط، وانتابه الحزن وخيبة الأمل، وهو الذي كان قد أعد العدة واستعد للانطلاق في الحملة الدعائية بموجب قانون الانتخابات، الذي التزمت به قوائمه الانتخابية الستة وثلاثين التزاماً تاماً، لئلا تخرق القوانين أو تتجاوز النظم، فتقدم للجنة الانتخابية العليا مبررات التأجيل ومسوغات الإلغاء.

ربما لم يفاجأ الشعب الفلسطيني أبداً بقرار الرئيس محمود عباس إلغاء الانتخابات، وتعطيل المسار الدستوري، وتجميد العملية الديمقراطية، فقد كان يتوقع هذا القرار ويخشاه، ويتابع الأخبار ويترقبه، إذ سبق القرار جدلٌ كبيرٌ، وتصريحاتٌ كثيرة، وتنبؤاتٌ عديدة، ونصائح وتوجيهات وتحذيرات وربما تهديدات محلية وعربية ودولية، وأخرى إسرائيلية اعتدنا عليها ونعرفها، جعلت الأجواء الشعبية العامة تتهيأ لمثل هذا القرار وتتوقعه، ولكن أملاً كان يحذوها، ورجاءً كان يجول في صدرها، أن يخيب الرئيس التوقعات، ويكذب التصريحات، ويمضي قدماً فيما أعلن عنه وبدأ به، ويحقق خيار الشعب ومبتغاه.

أما وقد وقع القول وانتهى الأمر وصدر القرار، فإن الأمور لن تعود إلى سابق عهدها، ولن يتقبل الشارع الفلسطيني القرار ويتجرع غصة التراجع وأسى الانقلاب، ولن يطأطئ رأسه مستسلماً، ويخفت صوته يائساً، ويسكت عما وقع وكأنه القدر، بل ستكون له كلمته، وسيشهد العالم كله موقفه، وسيعلم من عبث بمصيره وقامره بمستقبله أنه ظلم وأجرم، وأنه أساء وأخطأ، فالفلسطينيون الذين يقدمون كل يومٍ على مذبح المقاومة، وفي سوح الجهاد والنضال، عشرات الشهداء والمعتقلين، لن يتورعوا دفاعاً عن كرامتهم، وصوناً لحقوقهم، عن مواجهة من استرقهم واستنوقهم، وظن أنه سيدهم ويحق له أن يسوقهم ويستخدمهم.

فلا يتوقعن أحدٌ مهما بلغ شأنه وعظمت مكانته وسمت صفته وعلت منزلته، أنه قادرٌ على تحريك الشعب بجرة قلم، أو لجم إرادته بتصريحٍ أو قرارٍ، أو كبت حريته بمرسومٍ أو قانون، اللهم إلا إذا كانت القرارات شرعية، والمراسيم قانونية، والنوايا صادقة، والدوافع مقبولة، والمسوغات مشروعة، ولكن الشعب يعلم تماماً أن سلطته القائمة لا تهتم بمصالحه، ولا تسعى لمنافعه، ولا يعنيها شأنه، إنما يهمها العدو وما يشكو، والجوار وما يحذر، والولايات المتحدة الأمريكية وما تهدد، رغم أن كل هؤلاء لا ينفعون السلطة إن قرر الشعب الثورة عليها، والاحتجاج على قرارها، أو عصيان أمرها والخروج عن طوعها.

أما وأن الشعب يعلم يقيناً أن مصلحته مغيبة، ومنافعه متأخرة، وأن الذي يتقدم عليها هو المزاج الشخصي، والتقلبات الرئاسية، والاستبداد والفردية، والمصالح الحزبية، والمخاوف الإسرائيلية والتحذيرات العربية، فإنه سيكون له موقف واضحٌ وصريح، وحادٌ وقاطعٌ، ولديه من الوسائل الكثير مما يستطيع أن يستخدمها ويعبر من خلالها، وهو وإن تمكنت الأجهزة الأمنية من كم أفواه بعضهم ومداهمة بيوتهم واعتقالهم، فإن فضاء الحرية التي يتمتع بها الفلسطينيون المنتشرون في كل أنحاء العالم، سيمكنهم من التعبير الصريح والمباشر والمعارضة البناءة، ولن تقوى الأجهزة الأمنية الأمنية على ضبط ردة الفعل الفلسطينية فيالوطن والشتات، التي قد يكون لها أصداء دولية، ومؤسسات أممية تصغي لشكواهم وتستجيب لهم، وتعكس على الأرض قراراتها، محاسبةً ومعاقبة، وربما حرماناً من الدعم والمساعدة.

لن يصدق الفلسطينيون بعد اليوم قيادتهم، ولن يصغوا إليهم السمع، ولن يضطروا للدفاع عنهم وتبرير مواقفهم، ولن يتنازلوا عن حقهم في اختيار من ينوب عنهم ويمثلهم، ومن يتصدر مواقعهم ويحكم باسمهم، وسيصرون على إجراء الانتخابات أياً كانت التحديات والصعاب، ومهما بلغت العقبات والتهديدات، فهذه إرادة الشعب التي لا يصدها احتلال، ولا يعطلها سلطان، ولا يحد منها بطشٌ أو طغيان، ولا بغيٌ أو عدوان، ولعل العدو يعلم إرادته، وقد خبر مقاومته وعلم صموده، ويدرك أنه أقوى من قيادته، وأصلب من ممثليه، وأكثر إصراراً على نيل حقوقه ممن يدعي الإشراف عليه ورعايته.

لا يقبل الفلسطينيون من سلطتهم محاولاتها قمع أصواتهم، وكبت حرياتهم، ومحاسبتهم على مواقفهم، ومعاقبتهم على آرائهم، وما قامت به في الساعات القليلة الماضية ضد رئيس قائمةٍ محترمة، لهو عملٌ طائشٌ وغير مسؤول، بل هو فعلٌ جبانٌ مدانٌ، وفيه ظلمٌ واعتداء على حقوق شعبنا في حرية التعبير وبيان الرأي، وينبغي على القوائم كلها والكتل التي كانت تنوي المشاركة في الانتخابات، أن يكون لها موقفها وكلمتها، وألا تسكت عما جرى وتقبل بما حدث، فهي إن قبلت ورضيت فسيأتي دورها الذي فيه تقمع وتعاقب، فمن يسكت عن الظلم يطاله، ومن يقبل بالبغي يناله.

قرار إلغاء الانتخابات الفلسطينية جريمةٌ حقيقية في حق الشعب، فهي وإن لم تنزف فيها دماءٌ فقد نزفت فيها نفوسٌ، وأهدرت فيها كرامات، وضاعت حقوق، وفقد الشعب ما أنفق وما بذل، وخسر ما خطط وما نظم، إذ تكلف مالاً وبذل جهداً، وتفرغ للعملية الانتخابية، وعطل جوانب مهمة من حياته في سبيل هذا الاستحقاق الوطني الكبير.

وعليه ينبغي محاسبة من كان سبباً في هذا التعطيل، ومعاقبته على هذا الفعل، فهو دون القانون وليس فوقه، وهو محاسبٌ ولو كان مسؤولاً، ويجب أن يخضع للحق ولا يخضعه لسلطانه، فإن كان يرى أنه لا يقوى على مواجهة المرحلة فليتنحَ أو يستقيل، ويترك شعبه الحر الأبي القوي المغوار، يخوض معركته بنفسه، ويقرر مصيره بنفسه، فهو يعرف كيف يرغم العدو وينزله عند رأيه، وكيف يقنع الحليف فيؤيده في قراره، وكيف يلزم الجار والراعي بالوقوف عند حده.

بيروت

حول الموقع

سام برس