بقلم دكتور/ محيي الدين عميمور
ذكريات حرب أكتوبر: الرجال وأشباه الرجال (7).. كيف سوّق كيسنجر مطالب اسرائيل للسادات على انها مشروع امريكي

جرى اللقاءبين الوفدين المصري والإسرائيلي في الكيلومتر 101، وتبين أن المسائل هي أكثر تعقيدا مما كان يبدو من القاهرة، فقد كان الهدف المُقرر أصلا للاجتماع هو تحديد خطوط وقف إطلاق النار طبقا لخطوط 22 أكتوبر، والتي لم يكن الجيش الثالث المصري فيها محاصرا أو حتى قريبا من وضعية الحصار.

وكانت المفاجأة تصريح الجنرال الإسرائيلي في الجلسة الأولى بأنه لا يملك أي صلاحية لبحث موضوع الخطوط، والإسرائيليون أنهم لا يستطيعون العودة إلى خطوط لا يعرفون مواقعها بالضبط في ذلك اليوم، في حين أن صور الأقمار الصناعية الأمريكية والسوفيتية توضح مواقع الجانبين.
ويقول فهمي بأن الغمصي قدم للجنرال في المحادثات، وبأمرٍ من السادات، نسخة من الخطة التي أعدها الوزير، بأمل أن يستطيع “ياريف” إقناع “غولدامائير” بقبول الخطة، وأصبح الضرر مزدوجا عندما قام المسؤولون في القاهرة بتوزيع الخطة على ديبلوماسيين سوفييت وبريطانيين وفرنسيين، ويواصل فهمي في مذكراته قائلا : وجدت نفسي في موقفٍ حرج، لأن الرئيس تصرف بدون تعقل فكشف كل أوراقنا للعدوّ بدون الحصول على أي مقابل (..) وعندما أعطيتُ نسخة من الخطة لكيسنجر قرأها وقال : معقول، وعندما عرف أن ياريف تلقى نسخة منها قال : هذه كارثة
ويتقدم الوفد الإسرائيلي في الاجتماع الثاني يوم 29 أكتوبر خطوة أخرى إلى الأمام ليقول، بتعليمات من قيادته بالطبع، أن السبيل لحل المشاكل هو عقد “اجتماع سياسي” على مستوى عالٍ بين مصر وإسرائيل، وأنهم غير مخولين لمناقشة وقف إطلاق النار.

ويحاول السادات الالتفاف حول الطلب الإسرائيلي فيقوم بتعيين الغمصي مساعدا لوزير الحربية للشؤون السياسية، لكن هدف تل أبيب كان أعلى من الغمصي، ويدخل كيسنجر بشكل مباشر على الخط ليقول في رسالة إلى حافظ إسماعيل بأن ضغطَواشنطون على إسرائيل يُضعفه عدمُ موافقة مصر على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين (وهو ما لم يكن تم الاتفاق عليه، وإن جرت الإشارة له)
ثم يعود كيسنجر، وعن طريق القناة السرية، فيطرح أمرا جديدا لم يكن له مكان في قائمة المباحثات، وهو إفراج مصر عن الجواسيس الإسرائيليين الذين ضبطوا وصدرت عليهم أحكام في مصر، وهكذا يتحول وزير الخارجية الأمريكي إلى ناطق باسم إسرائيل ومدافع عن إرادتها.

وفي اليوم التالي يلتقي وزير الخارجية المصري بنظيره الأمريكي، ويكتشف بأن هناك تطورات في مباحثات الكيلو 101 لم يكن على علم بها، فقد أبلغ الوفدُ المصريُّ الإسرائيليين، وبناء على تعليمات من الرئيس، بأن مصر على استعداد لتبادل الأسرى، ويقول فهمي بأنه فزع من هذا الكشف المبكر عن الاستعداد المصري لتبادل الأسرى، وكان فهمي يُصرّ على أن يكون تبادل الأسرى بعد عودة إسرائيل إلى خطوط 22 أكتوبر، ولكنه يفاجأ بأن السادات تنازل عن هذه الورقة، ويقول عن ذلك أن تحكم إسرائيل في تموين الجيش الثالث المُحاصر قد عززته موافقة السادات على تبادل الأسرى بدون شرط، بدلا من اشتراط الانسحاب إلى تلك الخطوط.

كان الرئيس السادات يشير في حديثه عن “الرئيس الأسد” بتعبير: “موسوليني”بتاعي، ومعروف أن “أدولف هتلر” كان في مرحلة معينة يعتبر “موسوليني” عالة عليه، وهو ما يعني أن السادات كان يضع نفسه في وضعية الفوهرر الألماني، وسبق أن أشرتُ لقضية صورته مع القيادات العسكرية، فقد كان، كما يقول الوزير إسماعيل فهمي، مصابا “بجنون العظمة (التفاوض من أجل السلام – ص 97) الأمر الذي جعله يتخذ قرارات كبيرة من وحي اللحظة، بدون أن يدرك العواقب بعيدة المدى لتحركاته المتسرعة”، وأدى تدخله المباشر في مفاوضات الكيلو 101 إلى تعقيد الأمر بالنسبة لوزير الخارجية المصري، الذي كان آنذاك يتحادث مع كيسنجر في جنيف، حيث راح الإسرائيليون، الواثقون من الدعم الأمريكي، يراوغون ويثيرون المشاكل.

وأضيف إلى ذلك الإذلالُ الذي أخذت تمارسه القوات الإسرائيلية، المتحكمة في طريق قوافل التموين المصرية للجيش المصري الثالث، حيث رفضتْ مثلا مرور كمية من الملابس الصوفية للجنود المحاصرين، ويقول الفريق أحمد إسماعيل لإسماعيل فهمي، وهو يندفع إليه في مكتبه بوزارة الخارجية على الثالثة صباحا، بأن : الإسرائيليين يعتقدون بأنه إذا حصل المصريون على البلوفرات (pullovers) سيشعرون بالدفء وسيمكنهم هذا من استئناف القتال، ويُعلق فهمي بأنه، وهو يستمع للقائد العام، تصور الأمر مزحة، ولكنه لم يكن كذلك، وتطلب اتصالا بكيسنجر الذي طلب إلى “كورت فالدهايم”، الأمين العام للأمم المتحدة، إصدار تعليماته إلى الجنرال “سيلاسفو”، قائد القوات الأممية، لحل المشكل.

ويقول هيكل تعليقا على تصرفات السادات في هذه المرحلة بأن الرئيس كان يترجم قرارات مجلس الأمن ومحادثات الكيلو 101 واتصالات واشنطون طبقا لمنظوره الخاص، ويتصرف بناء على تقييمه الشخصي، فعندما حاولت إسرائيل ابتزاز مصر في قضية الإفراج عن أسراها اعتقلت 5700 مواطنا معظمهم من الفلاحين للاحتفاظ بهم كرهائن، ويكون الرد المصري، بتعليمات من الرئيس، عدم طرح الأمر على “مجلس الأمن” انطلاقا من أن كيسنجر سيتولى الأمر بنفسه، وكأنه أصبح ولي أمر النظام!!، وهو ما يُعطي فكرة عن احترام الرئيس لكرامة مواطنيه، التي راح يتاجر بها في مرحلة لاحقة.
وفي تلك المرحلة كانت الأطراف الأوربية مستعدّة لرفض احتكار كيسنجر لجهود الحل، وهو ما سمعه وزير الخارجية المصري من السفير الفرنسي في واشنطن، ولكن الجانب المصري لم يحسن استثمار الأمر، الذي نبّه له إسماعيل فهمي.

وتطفو على سطح الأحداث فكرة عقد مؤتمر للسلام بجنيف، يوافق عليها الوزير الأمريكي بضغط من السوفييت كما يقول إسماعيل فهمي، ولأن الوزير الأمريكي، كما يقول هيكل، يريد أن يعطي لنفسه في القاهرة صفحة بيضاء ( ربما يقصد: شيك على بياض) فإنه طلب وقف اجتماعات الكيلو 101، وتتضح خلفياته تدريجيا فبمجرد قبول السادات خرج بمجموعة تصورات كشفت إرادته في استغلال كل المعطيات لمصلحة واشنطن وتل أبيب، وكان لبّها استبعاد البحث في خطوط وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر، والتي تجاوزتها إسرائيل فعلا، وإقناع مصر بأن تتقدم إلى خطوة بعيدة، أي اتفاق لفك الاشتباك بينها وبين إسرائيل، وهو ما يعني “تثبيت” القوات الإسرائيلية في المواقع التي وصلتها يوم 23 أكتوبر، بل وترك المبادرة لها لكي تواصل قضمها للأراضي المصرية، وكان التصور الثاني العمل على إبعاد موسكو لينفرد كيسنجر بالسادات.

ويقول الوزير الأمريكي في هذا الصدد أن: “استراتيجيتنا يجب أن تقوم على أنه عندما يضغط الاتحاد السوفيتي أو البريطانيين أو الفرنسيين فإن علينا أن نجمّد كل تحرك حتى يعرف الجميع أننا وحدنا نملك القوة على التنفيذ”.

وكان التصور الثالث أنه، بدلا من البحث عن تسوية شاملة لكل جوانب الصراع العربي الإسرائيلي، لا بد من سياسة “الخطوة خطوة”، بحيث تجري المفاوضات كل مرة لتحقيق “هدف محدود” تقرره القيادة الأمريكية، حتى يتعود العرب على الخطوة خطوة، أي تدريجيا، ويكون توجيه مسار الأزمة وإدارتها أمريكيا، ويتم هذا مع كل دولة عربية “على حدة”، عبر مفاوضات ثنائية بينها وبين إسرائيل

ويبدأ الاستعداد لزيارة كيسنجر إلى القاهرة، في مطلع نوفمبر، بعد توقف في المغرب وتونس، حيث لم يجرؤ على زيارة الجزائر لأنه كان يعرف موقف رئيسها من الأمر كله، وإن كان سيزورها فيما بعد ليقدم للرئيس بو مدين، كما قال، عرضا عن اتصالاته مع القادة العرب.

وكان كيسنجر قد عبّر عن خشيته على سلامته الشخصية خلال زيارته لمصر، لكن فهمي يقول له، لطمأنته، أن بإمكانه أن يسير في الشوارع بدون أن يلاحظ أحد ذلك، وينزعج كيسنجر من ألا يلاحظه أحد.
وكان السادات متلهفا على زيارة الوزير الأمريكي، ويُعلّق كيسنجر على هذا بأنه كان دليلا على قناعة الرئيس بأن الولايات المتحدة هي وحدها التي تستطيع لعب الدور الرئيسي. (..) ومن هنا يرى أن مطلبه بضمان فتح الطريق لإمداد الجيش الثالث (..) يُؤدي إلى انقلاب الأوضاع، حيث تصبح القوات الإسرائيلية الموجودة في الجيب الإسرائيلي في حالة حصار، مما يُضفي قوّة على الموقف المصري، ويستنج محمود رياض من ذلك (ص 443) أن كيسنجر كان يرى ضرورة مواصلة حصار الجيش الثالث حتى يُمكن الحصول على تنازلات لصالح إسرائيل.

ويحس المتابع لتحركات السادات وكأنه يسير معصوب العينين فاقد الإرادة، فهو يرفض نصائح مساعديه بتفادي رئاسة الوفد المفاوض لكيسنجر، حيث أن هذا كان يتصرف بوحي من تقرير “الشيخ والخيمة”، الذي يؤكد أن كل شيء في الوطن العربي هو في يد شيخ القبيلة، ولأنه يعرف حجم سلطات الرئيس، فسوف يُركز قصارى جهده في الضغط عليه لانتزاع تنازلات، بدون أن يملك الجانب المصري فرصة المراوغة لغياب مرجع أعلى من المفاوض نفسه، الذي يستطيع أن يوقف المفاوضات، ويطلب مهلة للحصول على تعليمات من قيادته العليا إذا أحس أنه في مأزق.

ولا يكتفي الرئيس بذلك بل يصر على أن يقابل كيسنجر وحده (tête à tête)
ولعلي هنا أنتهز الفرصة لأقول أن اللقاءات المنفردة هي عملية بالغة الخطورة على رئيس طيب لا يملك مقدرة الطرف الآخر على المراوغة ولا يتوفر على رصيده من الخبث وسوء الطوية، ويفتقد تجربته السياسية الطويلة واعتماده على مجموعة عمل مؤهلة وخبيرة تعمل بأسلوب مخبر الأمم الشهير.

ويقترب أكتوبر 1973من نهايته، وتتواصل في القاهرة الاستعدادات لاستقبال كيسنجر، ويحاول هيكل مواجهة الموقف فيرفع للرئيس تقريرا أعده “أسامة الباز″، يرسم فيه سيناريو التفاوض، ويتناول أهم القضايا التي يمكن أن تطرح، ويُبرز خلفيات الوضع الإسرائيلي وحقائقه، ويستعرض أسلوب كيسنجر في التفاوض.

ويؤكد إسماعيل فهمي للرئيس ضرورة : “الوقوف بحزم أمام الوزير الأمريكي وعدم تقديم أي تنازلات له، أو التحرك بسرعة غير ضرورية، ويذكره بأن واشنطون لم تكن تقدم في الظروف العادية أية مقترحات للجانب العربي، بما فيه مصر، إلا إذا كانت تعرف مسبقا أن إسرائيل تقبل تلك المقترحات، ( مذكرات فهمي ص 94) ومن المحتمل أن يأتي كيسنجر بمطالب إسرائيلية بدعوى أنها مقترحات أمريكية”، ويقول للرئيس صراحة أنه : “لا ينبغي أن يخدع بمعسول كلماته، ولا ضرورة لمناقشة قضايا سياسية معه، وهكذا يغادر مصر خالي الوفاض، وليذهب السادات بعدها في جولة عربية واسعة، يعطي بها الشعور للعالم كله بأن وراءه أمة تلتزم بكل مواقفه”.

ويتلقى كيسنجر لدى وصوله إلى القاهرة يوم 6 نوفمبر، وقبل لقائه بالسادات، رسالة من واشنطون تتعلق بما قاله نيكسون لأعضاء حكومته من أنه، فيما يتعلق بالطاقة، فربما يكون ضروريا للولايات المتحدة ممارسة ضغوط على إسرائيل (..) وربما كان ضروريا أن نذهب إلى الأمم المتحدة ونمارس أنواعا أخرى من الضغوط على إسرائيل.

ويسارع كيسنجر بإرسال برقية إلى واشنطن، كما يروي رياض، يطلب فيها من معاونيه في البيت الأبيض العمل على منع تسرب أي أخبار عن موقف نيكسون، لأن العرب لو أدركوا لحظة واحدة موقف الرئيس الأمريكي فلن ينجح كيسنجر في الحصول على تنازلات منهم لصالح إسرائيل.

ولا يبدو أن السادات استفاد من خبرة الباز أو من نصائح فهمي، وهكذا يستقبل كيسنجر بحرارة أذهلت الزائر، ويجتمع معه على “انفراد” ثلاث ساعات، ثم يستدعي الوزير الأمريكي في الربع ساعة الأخير من الاجتماع مساعده جوزيف سيسكو، الذي يخرج من حقيبته ملفا يحتوى على ما اصطلح على تسميته بالنقاط الست، ويعطيها للسادات الذي يلقي عليها نظرة سريعة ثم يعلن موافقته عليها، ويعترف كيسنجر فيما بعد أن النقاط الست هي من أفكار وصياغة إسرائيل، ويروي أنه سأل غولدامائير عمّا تعنيه فقالت : “لا شيء”.

وتخرج روايات متعددة عن اللقاء المغلق، فيتباهى السادات بما سمعه من مديح الوزير الأمريكي، ويقول بأنه أوقف كيسنجر عندما بدأ يتحدث عن خط 22 أكتوبر بالقول : “هنري، أنت تضيع وقتك في التفاصيل، أنت رجل استراتيجي وأنا مثلك فدعنا لا نتوقف عند التفاصيل (..) السؤال هو: هل نستطيع أن نكون أصدقاء أم لا؟وأنا أريد أن نكون أصدقاء، وإذا أصبحت مصر صديقة لكم فإن المنطقة كلها تصبح مفتوحة أمامكم” !!!.

وهكذا يقدم نفسه كمندوب عن أمريكا وينتزع لنفسه دور وكيل لم يُوكله أحد، على حساب رصيده في حرب أكتوبر الذي بدأ يتآكل ويتفتت، برغم كل الضجيج الذي بدأ يصنعه في مصر أئمة الإعلام الموجّه، ومنهم من كان ينتهز الفرصة لتصفية حسابه مع المرحلة الناصرية.

أما كيسنجر فقد لجأ إلى أهم أسلحته التفاوضية مع البسطاء وأخذ في ممارسة خبثه على الرئيس الطيب وروى أنه سأله : “قبل كل شيء أريدك أن تحكي لي كيف ضحكت علينا وعلى مخابراتـنا، وضحكت على إسرائيل ومخابرات إسرائيل، وفي الواقع، على العالم كله ؟ كيف استطعت أن تفاجئنا بحرب لم نكن نتوقعها، وكيف استطعت أن ترتب لهذه الحرب في غفلة منا جميعا؟، إنها المرة الأولى في تجربتي السياسية التي أفاجأ فيها بهذه الطريقة وبهذه الدرجة”، ويقع الرئيس المصري في الفخ فيضيّع الوقت في التباهي بما حققه.

وينقض الإعلام المُوجّه على ما يُسرّب له فيأخذ في نظم قصائد تشيد بدهاء السادات الذي مكانه من وضع كيسنجر ثم بيغين في جيبه، وتتغزل بعمق تفكيره الاستراتيجي الذي يؤهله للقب “بطل الحرب والسلام”.
كاتب ووزير اعلام جزائري سابق
نقلا عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس