بقلم / علي البخيتي
أثناء الحروب والنزاعات في أي دولة فان صور القتل والدمار وحمل السلاح تنتشر، وتكون السائدة والمقبولة، بل والجميلة والمستحبة في الوعي الباطن للمجتمع، لأنها تُعبر عن قيم اللحظات العنيفة والانحدار في إنسانية المجتمع، وتعد إعلان عن عودة قيم التوحش والبدائية وثقافة رجل الغابة، وتظهر صورة إنسان تتساقط دموعه لمقتل أفراد من أسرته وأبناء قبيلته وكأنها نشازاً في وسط تلك الصور للقتل والدمار وحمل السلاح، صورة بعث بها لأبناء عمومته وقبيلته –لا للحاقدين والشامتين والمستثمرين لدماء الضحايا- يقول لهم: أنا أبكي كما تبكون حزناً على من فقدنا جميعاً، اشارككم مصابكم، واستشعر آلامكم، وان كنت بعيد عنكم وفي زيارة لدولة تشارك في الحرب، لكني لست راضياً عن ما فعلت عاصفتها بحق الأبرياء، في كل مناطق اليمن -كما لست راضياً كذلك عما تفعله مختلف الأطراف التي تخوض الحرب الداخلية بالأصالة أو بالوكالة- وها أنا انتقدها وأهاجمها من عاصمتها، لكني سأستمر في مساعي #صناعة_السلام_في_اليمن، متنقلاً بين مختلف البلدان التي لها تأثير في مسار الأحداث ويوجد فيها قيادات سياسية يمنية يمكن أن تساهم في وقف الحرب حتى لا يستمر نزيف الدم.
***
ثلاث لحظات بكيت فيها وبشكل علني خلال الأعوام الماضية، الثالثة رويت فصولها في مقال الأمس وفي الفقرة أعلى هذا، والأولى عندما استشهد الدكتور احمد شرف الدين، وتجمعنا أنا وزملائي من فريق أنصار الله في الحوار وركبنا الحافلة لمغادرة فندق الموفمبيك للاطلاع على تفاصيل مقتل زميلنا، وصعد الحافلة معنا الدكتور أحمد بن مبارك ومعه عبدالرحيم صابر كبير مساعدي جمال بن عمر، وطلب منا العودة لقاعة الحوار، لأن الرئيس سيقول كلاماً هاماً متعلقاً بمقتل الدكتور شرف الدين، وأثنا حديثه معنا بكى الدكتور بن مبارك، بل وانتحب صوته، وكان الكثير منا يبكي بصمت، وتتساقط دموعه، وما أن سمعت صوت بن مبارك يعلوا بالبكاء حتى انفجرت باكياً أنا وبعض الإخوة والأخوات الذين كنا على الحافلة، وشبهت الموقف لاحقاً وكأننا كنا في جلسة لطم في احدى الحسينيات الشيعية، والدكتور أحمد يقص علينا واقعة استشهاد الامام الحسين في كربلاء.
****
اللحظة الثانية: في اليوم الثالث تقريباً لدخول الحوثيين صنعاء، بعد اتصال من أحد العمداء أو العقداء في القيادة العامة للقوات المسلحة، حدثني خلاله كيف فعل الحوثيين بالقيادة وكيف تصرفوا معهم، حيث قال: أن بعض الأفراد والضباط عمدوا في فجر اليوم السابق الى نهب بعض الأسلحة الخفيفة والذخيرة من مخازن القيادة، وأنه ومجموعة من زملائه الضباط حاولوا منعهم، لكنهم فشلوا بعد أن وصل العراك بينهم حد رفع الأسلحة على بعض، فتواصلوا بالحوثيين طالبين منهم أن يأتوا ليحرسوا القيادة العامة من البعض الذين استغلوا مناخ الفوضى، ووصل الحوثيون سريعاً على شاصاتهم، وتوقفت عمليات النهب فوراً حيث كانت هيبتهم قوية مع أن عدد من وصل منهم قليل جداً، وكان في قدرة من تمرد داخل القيادة وبدأ في النهب مواجهتهم لكنهم خضعوا سريعاً وتواروا عن الأنظار وهرب بعضهم واستتب الأمر خلال أقل من نصف ساعة، وأغلق الحوثيون مقر القيادة العامة للقوات المسلحة داخل أمانة العاصمة صنعاء.

وأضاف الضابط: وبعد ذلك بست ساعات تقريباً فوجئنا ببوابة القيادة يتم فتحها واذا بعدة سيارات من المخصصة لنقل الأثاث دخلت الى حوش القيادة، ووراءها عدة أطقم حوثية عليها مسلحون بالعشرات، وبدأت عملية منظمة لنهب مخازن القيادة.

قال الضابط: كنت أصرخ فيهم ما الذي تفعلوه؟، نحن احتمينا بكم فكيف تفعلون بنا هكذا؟، وسرعان ما وجه أحد المسلحين الحوثيين فوهة بندقه الى رأسه قائلاً لي أصمت لا دخل لك.

وأضاف الضابط في مكالمته لي عبر الهاتف قائلاً: يا أستاذ علي كنا نستمع لك في شاشة التلفزيون ونقرأ لك في الصحف وأنت تتحدث عن الحوثيين وعن اخلاقهم وعن صدقهم ووفائهم فصدقناك، كنا نشاهدك وانت تلبس ربطة العنق وتتحدث عن اللصوص والفاسدين والمجرمين وتهاجمهم بقوة ورباطة جأش وثقة ونقول أن الحوثيين هم من سيحرروا البلد فعلاً، لم نعرف الحوثيين الا منك، ولم نصدقهم الا من كلامك، انت تتحمل المسؤولية، لقد جعلتني ومن معي من ضباط وأفراد تأملنا فيكم خيراً مسخرة بين زملائنا في القيادة، لقد نظروا لي والحوثيين ينهبون مقر القيادة، ويحملون كل شيء فيه، حتى الأسلحة الثقيلة قطروها خلف سياراتهم، بنظرات لا تزال عالقة في ذهني الى الآن، وهمس أحد الجنود في إذني بعد تهديد المسلح الحوثي لي قائلاً: "قد كان با يقع لنا يا فندم شوية بنادق وذخيرة، كنا أولى بمقر قيادتنا، قلت ماشي، يجوا الحوثيين، هيا ابسرت الحوثيين حقك يا فندم؟"، وأثناء حديثه وعتابه لي بدأ صوته يتحشرج ثم انفجر وسمعت بكائه على خجل وكانت وقتها دموعي تتساقط بصمت، اغلق السماعة دون حتى أن يقول لي مع السلامة، بكيت في مكتبي داخل مقر المجلس السياسي لأنصار الله "الحوثيين"، بكيت قهراً وكمداً على ما حصل في القيادة، ومبنى الإذاعة، وكانت تأتيني أيضاً معلومات من مؤسسات ومواقع عسكرية أخرى تتعرض للنهب، عندها أيقت أن الأوضاع ستنهار وأن الحوثيين لا يفهمون أهمية مؤسسات الدولة، وسيدمرونها، وكان لا يزال صوت الضابط في أذني وحشرجاته بالبكاء، والكثير من الشكاوى تأتيني، بسبب اقتحام الحوثيين للكثير من البيوت، ومقرات حزب الإصلاح، وقناة سهيل، وكمبيوتري مفتوح فكتبت العبارة التالية: (سأغلق تلفوناتي الآن واتوقف عن مواصلة النشر على صفحتي واي أنشطة أخرى وأعتكف، عذراً من كل الأحبة والأصدقاء الذين خيبت ظنهم ولم أتمكن من انصافهم، عيناي اغرورقت بالدموع وأشعر بألم في صدري وغصة في حلقي.. أرى وطني ينهار، واليمن الجديد الذي سعيت اليه بعيد المنال، سامحوني).

سرعان ما تم تداول ما نشرته، وخلال أقل من نصف ساعة حضر الى مكتبي بعض زملائي من أعضاء المجلس السياسي، طالبين مني حذف المنشور، محذرين لي من أنه سيفسد فرحة الناس بالنصر، وأن الخصم سيستغلونه كثيراً، ووعدوني بأن الأوضاع ستستتب، وأن الأخطاء سيتم معالجتها، قاومت ورفضت، لشعوري أنها لم تكن أخطاء، انما عمل منهجي، امتنعت عن الرد على أي اتصالات، واعتكفت ليومين قبل أن يتم طلبي الى صعدة –بعد الضجة الشديدة التي تسبب فيها منشوري الصغير- لمقابلة قائد حركة أنصار الله عبدالملك الحوثي، وتم نقلي على عجل الى هناك والأوضاع لا تزال متوترة جداً....وللقصة بقية لن اتحدث عنها في هذه المرحلة.
***
يعيش مجتمعنا لحظات صعبة، ويمر بحروب وصراعات مدمرة، أخذت الكثير من الأبعاد الطائفية والمناطقية، وكثرت فيها لغة التحريض وبث الكراهية والدعوة الى العنف والقتال، وتوحش الكثيرون، وأصبحوا متعطشين لصور دماء الضحايا من خصومهم، حتى المدنيين الأبرياء عندما يتعرضون لعملية انتحارية في مسجد أو شارع يأتي من يبرر الجريمة وينسبها الى غير فاعلها الذي أعلن عنها وتبناها، يصمت الكثيرون حتى عن قصف الطائرات لصالة اعراس تعج بالمئات، ولا يصدرون حتى بيان ادانة عندما يقتل المئات من عمال وأُسر موظفي محطة كهرباء المخا، وغيرها من الجرائم والمجازر المشهودة التي وثقتها الكثير من المنظمات الدولية، ويصمت خصومهم عن الجرائم التي ترتكبها جماعتهم بحق الأبرياء، وعن النهب الذي تمارسه والقتل والسجن والإخفاء القسري للخصوم السياسيين، وتكميم الأفواه واعتقال الصحفيين والكتاب وضربهم في السجون، لكن بعض هؤلاء يسارعون الى كتابة المقالات والمشاركات والتغريدات ساخرين من صورة لإنسان يبكي، فيما لم ينبسوا ببنت شفة لإدانة جرائم حرب، التي ارتكبتها مختلف الأطراف.
من صفحة الكاتب بالفيس بوك

حول الموقع

سام برس