سام برس/ متابعات
شكري بن عيسى

“دار لقمان على حالها”.. ربما يكون هذا افضل ما ينطبق على فعاليات معرض الكتاب للدورة 2016، فباستثناء بعض التغييرات الشكلية العرضية لا يوجد في الجملة اي تغيير جوهري، بل ربما هذه الدورة شابتها اخلالات اكثر من سابقاتها، وتدهور مستواها اكثر من الدورات السابقة برغم عودتها لموعدها العادي في شهر مارس..

كنا ننتظر الحقيقة في خضم ما تعيشه بلادنا من اوضاع اقتصادية متدهورة وسياحية منهارة واجتماعية صعبة وامنية دقيقة، خاصة في ظل تنامي الفكر التكفيري العنيف ان يكون المعرض حدثا فارقا على المستوى الوطني وحتى الدولي، وان تكون في غماره تونس منارة تشع على كل العالم، وتبرز ان افضل ما يمكن ان نواجه به الارهاب والانغلاق هو الكتاب، ولكن الفجوة كانت عميقة والخيبة كانت كبيرة ولم نتجاوز الحقيقة “عتبة الفقر” في الصدد.

وفي مستوى الاشهار والدعاية المحدودة وشبه المفقودة يبرز كل شيء تقريبا، فلا معلقات كان يفترض ان تجتاح كل المناطق بما فيها الجهات الداخلية، ولا ومضات تلفزية واذاعية منتظمة انتشرت على مدى واسع، ولا اعلانات دولية لاشهار انطلاق مهرجان ثقافي مميز يثبت ان الارهاب فشل في تحقيق اغراضه، والارادة السياسية كانت غائبة لتبويء هذه المناسبة ما تستحقه من اهتمام خاص.

والانطلاق كان بادارة المعرض التي اسندت لشخصية “قصيرة القامة” عجزت الحقيقة عن تبني رهانات ترتقي الى مستوى المناسبة، ويكفي ان ينفذ اي شخص للانترنت لكي لا يجد اي اثر تقريبا لشخص “العادل خضر”، الذي تفنن في اخفاء اخفاقاته المختلفة في النشرية الاعلامية للمعرض التي عادت بنا الى ايام المخلوع عبر الصور العملاقة لوزيرة الثقافة، وصور رئيس الحكومة وصوره الخاصة سيما وان النشاطات الثقافية كانت بلا جمهور تقريبا، وكأن “تخليد ذكرى تقلده منصب الادارة” هو الحدث الابرز، وفضلا عن ذلك فافتتاحية مدير المعرض كانت بلا روح ولا معنى ولا رسالة يقدر تلميذ مستوى باكالوريا ان ينتج افضل منها بكثير، ولن نشير للاخطاء اللغوية..

وكان من المستوجب اعلان ادارة مشتركة من شخصيات ذوي قامات مديدة في مجال الكتاب والثقافة ولها صيت عالمي لتحقيق الاشعاع الدولي للمعرض، وكنا الحقيقة ننتظر الخروج من احتكار اختصاص الاداب لادارة المعرض، والانفتاح اكثر على اختصاصات الاستراتيجيا والاستشراف والالسنيات والفلسفة والسوسيولوجيا والتاريخ والاقتصاد والقانون، ولم لا التوجه للاختصاصات الاتصالية والاعلامية والتربوية وحتى التكنولوجية والعلمية، فالتحديات اليوم ليست في القصة والرواية والشعر وانما في التصورات الكبرى، والتنمية والتشغيل والتكنولوجيا هي الاولويات.

وقبل ذلك كنا ننتظر فلسفة ومشروع بمعالم كبرى يبوأ الكتاب مكانة عالية بل استراتيجية، وتجاوز مستوى الاحصائيات التي تضع التونسي في مستوى هزيل جدا في القراءة، وتبني عناوين تضع الكتاب في عمق منوالنا التنموي والسياسي والاجتماعي فضلا عن التربوي والثقافي وقد يعبر بنا الى مستوى الفعل الحضاري الحقيقي، فكان الغائب الابرز.

لن اتحدث عن البرمجة التي وضعت انطلاقة المعرض مع انتهاء العطلة ومنعت بذلك عديد المعنيين من فرصة الزيارة والتنقل لحضور المناسبة، وسوء التنظيم الواضح بوضع خارطة المعرض في المدخل مقلوبة، وغياب الاستقبال والتوجيه والارشاد في مدخل المعرض، وانعدام الاشهار المستوجب للفعاليات الثقافية التي انطلقت بتقديم او تاخير وتغيير في المكان للبعض، وفي قاعات فارغة تقريبا للبعض الاخر، ولن اشير للمربض الخارجي للمعرض الذي يهيمن عليه مجموعات يفرضون رسوما بلا موجب، ولن اتطرق للمشرب والاسعار المشطة بخدمات متواضعة الذي يسند لنفس الاشخاص طيلة سنوات.

ولكني سانفذ باختصار الى بعض المسائل الجوهرية، ففضلا عن الاختلال العميق في برمجة نشاطات متعلقة بالمجالات السوسولوجية والاتصالية والتربوية والتكنولوجية والتنموية والبيئية، وغياب دعوة قامات كبيرة امثال “توماس بيكتي” و”ناعوم شومسكي” و”سلافوي جيجك” و”هبرماس″ و”ناعومي كلاين”.. التي كانت ستعطي اضافة عميقة على مستوى المضامين والاشهار خاصة، طغى على البرمجة اجتياح الخيارات الفرنكوفونية وحتى الفرنكوفيلية سواء من خلال تبويء “المؤسسة الفرنسية” صفة ضيف الشرف، وايضا برمجة اغلب الندوات والمحاضرات بالفرنسية، والعودة الى “المركزية” الفرنسية في اعلان ولاء واضح (بل بالاحرى فاضح) من ادارة المعرض.

ويبدو ان اعتبارات السيادة الوطنية كانت الغائب الابرز، كما ان اعتبارات الدستور في فصله الاول والتاسع والثلاثين وضعت جانبا، وقد تكون ادارة المعرض غير معنية بها اصلا، وهذا دون الاشارة الى الفصل 31 الذي يمنع الرقابة المسبقة على حرية النشر، وكما في الدورات السابقة فالندوات اسندت بطريقة العلاقات الشخصية، والاعتبارات الايديولوجية وخاصة الغارقة في اثارة القضايا الهووية والثقافوية، ومجرد نظرة على مطوية البرنامج يرى اكتساح اسماء الفة يوسف ويوسف الصديق والحبيب الكزدغلي وعبد الباسط بن حسين ورجاء بن سلامة، والاسماء تعكس العناوين بوضوح، كما تعكس حتى الاعتبارات الاسرية.

وهي اصوات لا يمكن الا ان تزيد في اثارة النعرات والقضايا التي تزيد من تفريخ الارهاب، سواء عبر مقارباتها الغارقة في معاداة فكر معين، او عبر نظرتها المركزية المتجذرة في الاقصاء ووصم الراي المخالف، والحقيقة ان توجه التقوقع والانغلاق والاحادية على حساب التعدد والاختلاف وثقافة التنوير والعقلانية والنقد يزيد في الشحن الايديولوجي، وينتج الاقصاء والتهميش الفكري المفرخ للعنف والتطرف.

وكما في كل سنة تذهب ميزانية المعرض للاصدقاء والاحباب وحتى الجوائز تسند بطريقة المجاملات والاستنسابية. واذا كان الطاغي هو الايديولوجي والشخصي والمصلحي، والانبهار بالثقافة الفرنسة في اللغة او في المضامين، واذا كان الاعتبار الاكبر هو ابراز صور وخطابات رئيس الحكومة ووزيرة الثقافة، ومع استمرار العقم في تصور رؤيا عميقة تكرس مشروع رائد، فلا ننتظر الحقيقة سوى تكرار المكرر الذي لا ينتج سوى حالة الكساد الكبير الذي يعاني منها الكتاب في تونس، ويغتال عبرها الحلم في النهوض الحضاري الذي لن يكون دون ابداع حقيقي من خلال الابتكار الثقافي والعلمي والتكنولوجي!!
(*) باحث قانوني وكاتب اعلامي تونسي

حول الموقع

سام برس