بقلم بروفسور / نسيم الخوري
إنزلق الأكراد في ما أسميته ” مثلث غير متساوي الأضلاع″ في مقال نشر في 9/12/2012، هو جزء من دراسة مطوّلة نشرت في مجلّة “الدفاع الوطني” في 18 أيّار /مايو 2006 المعتبرة علمياً بعنوان: “الدولة الكردية بين الوقائع والوعود” .

جاء فيها أنّ هذه الدولة ستبقى بين قوسين، بالرغم من حقوق ثقافية ولغوية وأنّ بؤساً سيبقي الأقليّات والأكراد الأشداء تحديداً في دوائر الإستحالات.

هالني حجم الردود العاطفية وقساوة لغتها التي نشرها عدد من مثقفي النخب الكرديّة في أكثر من وسيلة إعلاميّة وإنّني تفهّمتها وأتقبّلها… لكنّ ما يحصل اليوم وسيحصل بعد إندفاعات لاعب الكرة الماهر أردوغان المتعدّدة في الملاعب الفسيحة يجعلنا نعيد التفكير. يندفع أردوغان فرحاً عسكرياً في شمال سوريا، متطلّعاً الى إيران التي لها في عنقه دين التأشير بالإنقلاب، بعد إنصياعه الحتمي لروسيّا وعبسته المصطنعة المشكوك بملامحها بوجه أميركا “المتّهمة”بتحريض غولين الى الإنقلاب الفاشل عليه، ومناكفة إلمانيا وأوروبا مجتمعة، كلّها تدفعنا الى الوقوف عند رؤيتنا القديمة بعدما تغامزت أو تقاطعت أوتفاهمت الأضلاع الكثيرة وخصوصاً الأربعة سورية وإيران وتركيّا والعراق. يتقلّب أردوغان في الملعب وخوفه من أن يرى غولين في بلد قريب لتركيا كمصر مثلاً يدير منها حراكاً يعيد رسم مستقبل تركيا كنسخة مشابهة لتجربة الإمام الخميني في إيران 1979 ، أو في تحوّل دولته كرة في ملعب يتسّع بين روسيا وأميركا، وقد تكون كرةً ملتهبة بإنتظار خطوط التوازن الدولي المتظر.

أسئلة صعبة حيث لن تتقلّد أوروبا الهلال ولا تركيا الصليب.
كيف تحوّل الأكراد الى مرمى للنيران المتقابلة والمتصارعة والمتغامزة اليوم لتجعلهم عقدة التجاذب والتصالح بين الدول العظمى لا الإقليمية كما عبر التاريخ؟

وكيف ينهار حلمهم التاريخي المتكرّر في إقامة دولة هي ممكنة التحقيق في وجدانهم، لكنها مستعصية فوق تلك الجغرافيا الوعرة والمتشظية والمشتعلة منذ أن بدأ التأريخ؟ كيف يتحوّل الشتات الخاص بالمجموعات الإتنيّة، بالمفهوم الجيوسياسي، الى تاريخٍ حافل بالهزائم؟ وقد يتّخذ السؤآل مداه الواسع بالعودة لمعركة مرج دابق(1516) المتكرّرة بعد 500 سنة، بحملة عسكرية تركية على مدينة جرابلس بمحافظة حلب شمالي سوريا حكمتها الصدفة أو عكسها بهدف تطهير المنطقة من “داعش”ثم بالعودة الى جالديران (1517) وسايكس/ بيكو وما تلاها من محطات تاريخية مثل سيفر ولوزان والتقلّب بين التغريب والتعريب أو التفريس والتتريك.
كيف إستمرّ الأكرادمتأرجحين بين سلاطين عثمّان والشاهانات الفارسية، بالرغم من ارتقاء بعض زعمائهم، إلى الحظوة بلقب الملوك، ناظمي حدود بين الفرس والأتراك والسوريين والعراقيين، ولم يكن يقربهم من التوحيد سوى الإسلام؟.

أهو العدد بمعنى الكم أم الثقافة واللغة والعادات والتقاليد والفولكلور أو الجروح والتحدّيات التاريخية هي العناصر التي تولّد هذا الإندفاع في الصعود والهبوط لدى الأقلّيات أو كلّها معاً؟

طبعاً، لست، لأجيب عن الأسئلة التي أصوغها لطالب يحضّر أطروحة دكتوراه، لكنّ تلميحاً يمكن ملاحظات:
ما يسهل تحقيقه في لندن أو في واشنطن أو موسكو وعواصم العالم يبدو تحقيقه عسيراً أومكلفاً جداً للأطراف المتدخّله، على الرغم من اندفاعة الأتراك والإيرانيين وجيوش العالم وتحالفاتهم المعلنة والسريّةوالمعقّدة منذ غزو العراق نحو العراق وسوريا والبلاد العربيّة كلّها.

لنبدأ من سوريةعددياً ، حيثأكثرية الأكراد في القامشليوالحسكة وعين عرب ومنطقة جرابلس. هناك حضور لهم في جبل العرب قرب مدينة عفرين بمحافظة حلب، مقابل إصلاحية وكيريكان التركيتان، كذلك هم في حي الأكراد في دمشق المعروف بحي ركن الدين. للأكرادالمنزلة الرابعة في التصنيف السكاني في الشرق الأوسط، حيث تتألف الأكثرية من العرب والإيرانيين والأتراك.هم أكبر مجموعة إثنية في العالموتتجاوز أعدادهم 35 مليون تقريباً يتوزعون بين تركيا(50%) ايران (25 %) العراق (16%) سوريا (4%) ، أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وآسيا الوسطى (1%)أوروبا (3%) لبنان 1(%).يشكّل الأكرادنسبة %21 من سكان تركيا، و %20 من سكان العراق، و9% من سكان سوريا، و7% من سكان إيران، حيث يقدّر العدد الإجمالي للمجموعات الكردية في الدول الأربع ما بين 30 الى 35 مليون نسمةمنهم مليون ونصف كردي موزّعين بين مختلف دول العالم. ويعيش في تركيا وحدها عشر أضعاف الأكراد في سوريا، ولهذا دلائل تساعد في قراءة المستقبل.

جغرافياً، يقيم هؤلاء الأكراد في قرى معلّقة تتلاصق فيها البيوتوتعلو فوق بعضها البعض مشابهةً البيوت القديمة في جبل لبنان المنطقة التي سمّيت عبر التاريخ مقبرة العثمانيين.لم تكن كردستان سوى خط متعرّج ومتقلِّبعلى مرّ العصور، جعل الأكراد يختلطون بالأرمن جنوباً، حيث تضاعفت أعدادهم بفضل السياسيات التركية التي كانت تشجّع هجراتهم، في أعقاب المذابح الأرمينية الأربع (1895 ـ 1909، 1919 ـ 1916). واختلطوابالأتراك، في مناطق ديار بكر ومردين، كما بالعرب والتركمان والأتراك أيضاً، في أعالي بلاد ما بين النهرين.

أما في إيران، فبلاد الأكراد ذات حدود طبيعية عند بحيرة رومية جنوباً حتى كرمنشاه. ومع أنّ الجغرافية قد تمّ تطويعها، فإنّ الإلتفات الى تلك المسالك الجبلية ، تفصح بسهولة ما كانت تصبو إليه الحركة الكردية أساساً، وهو التخلص من صفة “الأقلية” والمطالبة الدائمة بقيام دولة كردية أو استقلال ذاتي.من يتأمل تلك الوعورة الطبيعية، يدرك بسهولة أيضاً، المطامع الاستراتيجية التي دفعت الدول العظمى إلى شق الطرق الواسعة هناك، فكان في الشمال طريق “هاملتون” المهندس الإنكليزي الذي شقّها بين 1927 و1932، إلى الطرقات الواسعة الجميلة التي شقتها الحكومة العراقية في مناطق الأكراد، ومثلهما تركيا التي ارتبطت بخطّ سكّة الحديد، يمرّ في منطقة van إلى إيران وباكستان.

ثقافياً ولغويا، يتكلم الأكراد اللغات ـ الهندو ـ أوروبية القريبة من الإيرانية وهم لا يعرفون غير لغاتهم المتفرّعة إلى لهجات أهمها “الكورمانجي” و”السوراني”. تنتشر الأولى في تركيا وسوريا وتكتب بالحرف اللاتيني كما في القوقاز، وتكتب بالحرف “الكيريلّي”. أما اللهجة الثانية فتنتشر في العراق وإيران وتكتب بالحرف العربي. وهناك لهجات عدّة أخرى، محدودة الانتشار أهمها “زازي”.

إن مسألة الإشارة إلى وجود لهجتين كرديتين، وثلاث أبجديات لكتابتها، قضية تشغل مفكري الأكراد ومثقفيهم، بهدف توحيد لسانهم، وهو عنصر أساسي في تحديد مستقبلهم. وقد عقدوا ندوة في باريس في العام 1983، وكان هناك نقاش حادَ في ما بينهم، بين استعمال الأبجدية اللاتينية، أو العربية، وصدر التمني إلى الكتاب الأكراد باعتماد الأبجدية العربية في العالم ولهذا مغزى كبير.

لم يتعلّم الأكراد من عذاب قرنٍ كامل.هم أسرى النقاط الخمس التي ستبقي الخلافات بينهم أقوى بكثير من خطوط التوحّد، ناهيك عن الفجوات التي تفصل بينهم وبين العرب والأتراك والإيرانيين. وبالرغم من الحكم ذاتي في شمال العراق فإنّهم يقفون فوق عتبة الإستحالة في تقرير مصيرهم.
كاتب لبناني
*نقلا عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس