سام برس
قصائد الحنين والشجن والألفة تجاه الأمكنة والمدن لتظل دوز في القلب..

شمس الدين العوني

"......أعود
لدكان جدي..لثياب الطفولة..للبيت القديم
أعود
لكن من يعرفني الآن
في ليل الصحراء
من يذكر وجهي ...
و أغنيتي
و رسائل حبي.....
من..."
هذا هو الطفل الأسمر القادم من هناك..حاملا كلماته في الدواخل و بقلبه أنشودة من رمال الجنوب و الصحراء و أجراسها..عرفته من زمان يلهو بتفاصيل الحنين الكامن في تلك الصور التي ظلت عالقة بأبواب قلبه..كان مفعما بالذكرى و لا يلوي على غير القول بطفولة كانت العنوان الأكبر في خطاه..
هكذا هو الآن ..لم يتغير و لم يتنكر لخطى القرويين و تلوينات البداوة..مدرسته الأولى بل الأم في حله هذا و ترحاله تجاه العواصم و المدن..بقي الفتى على براءته تلك يدندن أغنيته المعهودة ..يأخذه الشوق و تهزه الأمنيات ينحت ضحكته بعيدا عن الضجيج و لا شيء يهزه سوى هذا الحنين الجارف..
انه الحنين الى العناصر و التفاصيل التي رآها للمرة الأولى و هو الطفل الجنوبي الذي أودع سره الكلمات و راح تائها في ليل العوالم ينشد ألفته مع الكائنات..

" اشتقت ...
لحمام يحط على كتفيك
لغناء عصفور
في باحة البيت
كل صباح..."
هكذا ألج عوالم الصديق الشاعر نور الدين بالطيب الذي أطل علينا بعد عدد من الدواوين الشعرية و الكتب و المسرحيات و غيرها بديوانه الشعري الأخير بعنوان " صلوات للرمل...و للذكرى "التي هي بمثابة نصوص القلب الطافحة بالوجد و المحبة و الحنين تجاه أسماء و منها الشاعر الراحل عبد الحميد خريف و الأمكنة و المدن التي زارها الشاعر و تركت لديه أشياء من عوالم الألفة و هنا صدق صديقنا الناقد علي العمري في تقديمه حيث ذهب باتجاه شعرية الحنين و شعرية الألفة و هو يقرأهذا العمل الشعري ..
" سيقولون ...
كان هنا
في باب البحر
في فلورانس
في مقهى الكون
نعرفه...
كان يبكي مثل العشاق
و يغني أحلى الأشعار
و يناجي الطير..."
هذه القصيدة يهديها نور الدين بالطيب الى الشاعر الراحل عبد الحميد خريف و من خلالها يستذكر شيئا من لقاءاته الثقافية و الأدبية بعدد من المقاهي بتونس العاصمة و الشاعر تربطه بالراحل وشائج و صداقة باذخة حيث كان حلوله بالعاصمة في التسعينات للدراسة الجامعية و في تلك الفترة كانت لقات الشعراء و الكتاب و المثقفين متعددة و قد شهدت نقاشات و آراء مهمة بخصوص التجارب و التيارات و صلتها بالحركة النقدية..
فكأني بالشاعر بالطيب في مثل هذه القصائد لا يستذكر أحبابه فحسب بل انه يذهب الى حيز مهم آخر و هو ذاكرة الأمكنة..الذاكرة الثقافية على غرار مجاميعه الشعرية الأخرى و كانت البداية مع " قصائد موحشة " و هنا نذكر سيدي الغوث بدوز..
و لدوز الجميلة هذه حكاية وجد مع نور الدين بالطيب..فهو شاعرها الذي يلوذ بها في ليل العواصم و المدن يرتجي شيئا من سرها في هذه الأيام الموحشة..
" وحدها ...
الرمال
تذكر حزنك
تتذكر دمعك
حروفك الأولى
كلماتك...وحدها الصحراء
تحفظ أسرارك
حرائق شوقك
لهيب الذكرى
رسائل ...
كنت تكتبها
في ساعات الفجر
توزعها الريح
بين نساء
بلا عناوين
و لا جغرافيا..."
تعددت مدن الشاعر في هذه المجموعة ما يلفت الانتباه الى صلة القصيدة بالمكان المتغير فالشعراء عادة ما يمنحون الأمكنة شيئا من العبارات التي تحتاجها حيث لا ينتبه عامة الناس الى سحرها المبثوث في تفاصيلها ..فالمكان مكانة و الشاعر هنا يلج المدن بنظرة الحالم و الباحث عن ذكرى ما قد تهزه ليستذكر التواريخ و الأمجاد.
بعد دوز الموطن الأم يمضي بنا الشاعر( أبو أقمار ) نور الدين بالطيب الى أمستردام و باريس و كتالونيا و جيرونا و غيرها من بلاد العالم و مدنه ..
" ...مطر لأواني الزهر...
في شرفات برشلونة
مطر لحمام ساحة كتالونيا
للوحات ميرو...لنساء بيكاسو
لعيني غالا
مطر..."
قصائد خفيفة في غير تكلف و لا اجترار و افتعال تنهل من طفولة كامنة في " بو النور " كما يحلو لي أن أناديه ...قصائد الذات الموغلة في التعلق بالجميل حيثما كان فالعالم بلغاته و جغرافياته مجال مفتوح أمام الشاعر نورالدين بالطيب الذي لا يقنع بمكان ديدنه الترحال و الاقامة الباذخة بين الألفة و الحنين و في شجن بين و هنا يقول الصديق الناقد علي العمري في مقدمة تصدرت هذه المجموعة الشعرية التي نحن بصددها "...و الحنين في مستوى آخر عالم شعري تحكمه جدلية رئيسية في هذه المجموعة :جدلية الغياب و الحضور فنصوص المجموعة في أغلبها جدل بين عالم تحضر فيه الذات و يغيب عالمها و هو عالم تؤثثه فضاءات تثير في الشاعر سؤال الحنين و هذا العالم هو باريس مرة و أمستردام أخرى
و برشلونة ثالثة و عادة ما يكون هذا العالم مولدا للذكرى قادحا للحنين و عالم آخر يتم فيه استحضار الذات في شكل من أشكال المصالحة بين عناصرها المتشظية...".
" في متحف خوان ميرو
اكتشفت ...
أنك لوحة نادرة
لم يرها أحد قبلي".
هذه قصائد بالطيب في عمله الشعري " صلوات للرمل...و للذكرى " الصادر عن دار آفاق-برسبكتيف للنشر بتونس ضمن سلسلة آفاق للابداع و الفنون في 120 صفحة من الحجم الصغير (على شكل كتاب الجيب) ..تجربة أخرى في سياق مسيرة الشاعر نور الدين بالطيب الذي نحت لذاته نهجا مخصوصا في الكتابة الشعرية بعيدا عن شعر الطلليات و المنبرية الخاوية ..هي قصائد لحظتها و ثقافتها لا تروم غير القول بالذات في هذا المعترك اليومي من السقوط و التداعيات المربكة و المريبة..الشاعر يحافظ على نسقه في العلاقة مع القصيدة و لا يريد لصوته أن يشبه الأصوات الأخرى المتدثرة بملامح شعرنا العربي القديم..الشاعر يكتب ذاته خارج القطيع..و الشعر في صورة من صوره هذا الخروج و الوفاء للذات في نواحها الخافت..

حول الموقع

سام برس