بقلم/ منير إبراهيم تايه
في تاريخ الفكر الإسلامي شخصيات أثَّرت بشكل كبير في تقدم المعرفة الإنسانية في ميدان الفلسفة والنظر العقلي، لا سيما إذا كانت الرؤية الفلسفية تنبثق من تصور كوني يرتقي بالمعرفة الإنسانية، وفق تصور نسقي يتناول الإنسان ككائن كوني متعدد الأبعاد.. ومن هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف الأندلسي ابن الصائغ التجيبي، المعروف بابن باجة الأندلسي، وهو "أبو بكر محمد بن يحيى الصايغ"، المولود في مدينة سراقوسا الإسبانية، أوائل القرن الثاني عشر، ولم تعرف على وجه التحديد سنة ولادته، توفي مسموماً من قِبل أعدائه الذين وصموه بالكفر والإلحاد في مدينة فاس المراكشية، بعد أن رحل إليها حين كانت الأندلس تمر بمرحلة من الاضطرابات الداخلية والهجمات الإسبانية على معاقل العرب ومدنهم.

بيئة ابن باجة الفكرية والسياسية

اتسمت المرحلة التاريخية التي عاش فيها ابن باجة في الأندلس باضطرابات وانشقاقات وصراعات بين ملوك الطوائف، وتحول السلطة إلى دولة المرابطين، بعد أن أدت الخلافات بين الأمويين والبربر في الأندلس إلى تقويض الخلافة الأموية هناك، استتبعت هذه الانهيارات في الأندلس ما سبقها من انهيار دولة العباسيين وقبلها الأمويين في المشرق، ترافقت هذه الانهيارات السلطوية بمجيء أمراء وحكام اتصفوا في غالبيتهم بالاعتماد على الفقهاء والمقلدين في تكريس سلطتهم، وذلك عبر توظيف هؤلاء الفقهاء في تسويغ السلطة السياسية وإضفاء المشروعية على الحاكم، وهي وجهة ترتب عليها اضطهاد الفلاسفة والتنكيل بهم وإطلاق شتى نعوت التكفير في حقهم.

وبخلاف المشرق، لم يشهد علم الكلام في المغرب ذلك الازدهار الذي عرفه المشرق، لأسباب تتصل بالبيئة الفكرية السائدة في تلك المناطق وبُعدها عن مراكز التفاعل السياسي والفلسفي، كالذي عرفته بلاد الرافدين أو بلاد الشام في عهود الأمويين والعباسيين الذين أتاحوا مجالات واسعة للنقاش اللاهوتي بين الفرق الإسلامية.

وفي مجال آخر، يرى بعض دارسي المغرب العربي، وخصوصاً الحكم في الأندلس، أن ضعف وجود الفرق الدينية يرتبط إلى حد بعيد بسيادة مذهب وحيد من المذاهب الإسلامية هو المذهب المالكي؛ حيث لعب هذا الاحتكار دوراً سلبياً في تطور الحركة الفلسفية؛ لأنه حد من الحرية الفكرية وازدهار السجالات بين المذاهب بما يغني الحياة العقلية ويدخل جمهوراً واسعاً في سجالات القضايا التي تثيرها.

لكن الحركة الفكرية في المغرب، وعلى ضعف انتشارها، اتسمت بقيام الفلسفة على العقل وتنصيبه سيداً في السجالات والأحكام بشكل تجاوز المشرق، يعود هذا التميز "المغربي" إلى تغلغل الفلسفة اليونانية بشكل أكبر مما عرفه المشرق، ودخول مؤلفات وكتب حول هذه الفلسفة لم يسبق للمشرقيين أن عرفوها، والسبب الأهم يعود إلى ذلك التواصل بين المشرق والمغرب حول قضايا الفلسفة واطلاع المغربيين على حصيلة السجالات وما توصل إليه المشارقة من آراء فلسفية، مما يعني أن المغرب حصل على الخلاصات الفكرية - الفلسفية للمشرق بعد أن وصلت إلى أعلى درجات تطورها ونضجها، وهو ما ساهم في تمكن المغاربة من الإفادة من هذا التطور وتوظيفه في الوجهة والمنحى الذي سلكه فكرهم الفلسفي، خصوصاً في اعتماد العقل مقياساً للحكم على جميع القضايا، وهو أمر يشهد عليه فكر ابن باجة وبعده كل من ابن طفيل وابن رشد.

وسط هذه الأجواء الأندلسية، نشأ ابن باجة ومارس حياته متعددة المشارب والمجالات، كان "شمولياً" في العلوم والفنون التي أتقنها، والتي تراوحت بين الفلسفة والمنطق والفلك والطب وعلم النبات والموسيقى والشعر وغيرها من فنون الأدب، فتميز بسبب هذا التنوع الفريد في الاهتمامات.

تركزت أعماله الفلسفية بشكل خاص على إنجاز تعليقات معمقة لكتب أرسطو وأفلاطون والفارابي، فقدم الكثير من الاجتهادات حول الفلسفتين اليونانية والعربية الإسلامية؛ حيث ضمت فلسفته خلاصة ما وصلت إليه هاتان الفلسفتان في ميادين النظر إلى السياسة والفكر والاجتماع والأخلاق.

كانت آراء "ابن باجة" معادية لآراء الصوفية، أما فلسفته فكانت مبنية على فكرة "الانعزال والانفراد"؛ لأنه كان يعتقد أن الفكر الناشط والتفكير الصحيح لا يأتيان إلا بالانفراد والتأمل والانعزال عن الناس.
قرأ "ابن باجة" كتاب "حي بن يقظان" لتلميذه ابن طفيل، وقال عنه: "بعد أن قرأت الكتاب وجدت أن نفس الإنسان تتحد باطنياً مع العقل الناشط"، ثم تنتج أفكاراً وأساليب هي في غاية التناسق والانسجام مع الآراء الحديثة المتبعة بين الناس.

خالف "ابن باجة" في آرائه الفلسفية "ابن سينا" و"الفارابي"، وحسب رأيه، فإن آراء هذين الفيلسوفين كانت مبنية على أسس الدين، وليست مبنية على أصول العلم والمنطق، ولهذا فقدت صبغتها العلمية.

كان يعتقد أن العلم التطبيقي علم مفيد للإنسان؛ لأنه يسهل مرافق الحياة للناس، وخصوصاً الاكتشافات التي تسهل للناس حياتهم اليومية، وبالرغم من انتقاده لفلسفة الفارابي، فإنه أعجب بكتابه "رسالة في آراء أهل المدينة الفاضلة"؛ لأنه حثَّ على رفض أفكار وانتقادات العامة من الناس وهذا مما يطابق فلسفته.

قسم ابن باجة التفكير الإنساني إلى قسمين:
الأول: التفكير العادي
وهو الفهم المتساوي بين جميع الناس، وهذا يضم تفكير الإنسان في حياته كالحصول على معيشته ولباسه ومعاملته ومسلكه مع الناس.
الثاني: التفكير الناشط
وهو الفكر المبدع وثماره المخلفات الفكرية كالاختراع والتأليف في العلوم والفلسفة والأدب، وهو الفكر الذي يستنبط ويحلل ويبتكر ويؤلف ويكتشف وهذه المخلفات الفكرية باقية لا تموت بموت الإنسان.

وللأسف فإن صاحب هذا النوع من التفكير سيكون عرضة للشك والاضطهاد وسوء المعاملة؛ لأن عامة الناس جهلاء لا يفهمون قيمة العلم والمقدرة الفكرية فيصبح صاحبها عرضة لسوء المعاملة التي تقوده إلى الهلاك. وخير لهذا الإنسان السكوت والصمت وتحاشي المناقشات في الأمور الدينية، خاصة الجدل مع عامة الناس.

في كتابه "تدبير المتوحد" شرح أبرز مبادئه الفلسفية، وما يتعلق بخلود العقل والصور العقلانية من جهة، وفساد كل خصائص الإنسان الأخرى بما فيها الصور الجسمانية والروحية من جهة أخرى.

لم يكتفِ ابن باجة بتمجيد العقل بل إلى تقديسه، بحيث احتل المرتبة الأولى في الأهمية عنده، فالمعرفة الصحيحة، والمعرفة المطلقة، والسعادة والأخلاق، كلها شؤون مبنية على العقل، كما أن الإنسان يستطيع بواسطة عقله أن يدرك كل شيء، من أدنى دركات الوجود (المادية)، إلى أعلى درجات الوجود (الوجود الإلهي).

واعتبر أن العقل هو العنصر الحاسم في خيارات الإنسان واختياراته والمصدر الأساس الذي تتوقف عليه سعادة الإنسان، فيقول: ولما كانت الأفعال الإنسانية هي الاختيارية كان كل فعل من أفعال هذه القوى يمكن أن يكون للناطقة فيها مدخل. والنظام والترتيب في أفعال الإنسان إنما هو من أجل الناطقة، وهما للناطقة من أجل الغاية، التي جرت العادة إن يقال لها العافية والسعادة..وكل ما يوجد للإنسان بالطبع ويختص به من الأفعال فهو باختيار. وكل فعل يوجد للإنسان باختياره فلا يوجد لغيره من أنواع الأجسام، والأفعال الإنسانية الخاصة به هي ما تكون باختيار، فكل فعل إنساني هو فعل باختيار، وأعني بالاختيار الإرادة الكائنة عن روية، أما الإلهامات والإلقاء في الروع وبالجملة الانفعالات العقلية - إن جاز أن يكون في العقل انفعال يشارك الإنسان- فإن الإنسان مختص بها، وإنما احتيج إلى اشتراط الاختيار في الأفعال التي من جهة النفس البهيمية، فإن الحيوان غير الناطق إنما يتقدم فعله ما يحدث في النفس البهيمية من أفعال.

أما فلسفة ابن باجة فقد كانت تدور حول "النظام" وقد عرف هذه الكلمة، فقال: "إن كلمة نظام تعني التناسق في الأعمال التي لها نهاية موحدة وغاية موحدة"، وكلمة نظام لا يمكن تطبيقها على عمل واحد، بل على عمليات عديدة تهدف إلى هدف معين، فمثلاً أن هناك "نظاماً عسكرياً" و"نظاماً سياسياً" و"نظاماً اجتماعياً" وهكذا فإن الخالق يدبر نظام الخليقة ونظام الكون حسب إرادته كما يدبر الإنسان نظامه على الأرض حسب احتياجاته.

وقال: "إذا كان تفكير الإنسان يدور حول العدالة والإنصاف وحب الخالق وإطاعة وصاياه. هذا الإنسان مثالي ذو نفس عالية وقد منَّ عليه الخالق بصفات عالية وضعته فوق باقي المخلوقات. أما إذا كان فكر الإنسان يدور حول شعوره وملذاته في الدنيا وما توفر له هذه الملذات من أطماع وشهوات حيوانية ومن أخلاق عدوانية، فإن هذا الإنسان تسيطر عليه أطماعه الحيوانية فيصبح الإنسان في منزلة الحيوان وليس له منزلة الإنسان ذي الأخلاق العالية، وهكذا فقد فرق ابن باجة في كتابه "تدبير المتوحد" بين الإنسان ومقدرته العقلية، وبين الحيوان الذي تركزت أطماعه على مطالبه

الفلسفة العقلانية في فكر ابن باجة
يطلق على فلسفة ابن باجة أنها سعي دؤوب لـ"مصالحة الفلسفة مع الحياة، أو ما وراء الطبيعة مع الطبيعة"، من أجل ذلك، رأى ابن باجة أن العقل هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه المهمة، فجمع في فلسفته الإسلامية بين نظام أرسطو العقلي وتأملات أفلاطون الروحية، واعتمد على كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، و"الأخلاق" و"الحس والمحسوس" لأرسطو، و"السياسة المدنية" و"رسالة العقل" للفارابي في شرح مفاهيمه العقلية وطروحاته الفلسفية.

شدد ابن باجة على أن العقل هو العنصر الحاسم في خيارات الإنسان واختياراته والمصدر الأساس الذي تتوقف عليه سعادة الإنسان.

والعقل عند ابن باجة هو العلم النظري الذي يحقق الإنسان بواسطته كماله الطبيعي؛ لذلك يعتبر أن من يدرك هذه المرتبة من العلم يكون قد ظفر برضى الله ونعمته؛ إذ ليس أحب عند الله من هذا العقل، وإثباتاً لذلك يستشهد بما جاء في بعض الآيات القرآنية "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، كما يستشهد ببعض الأحاديث النبوية لتأكيد أهمية العقل ولدحض رأي الفقهاء الذين يشنون الحملات ضد الفلاسفة.

وإذا كانت الفلسفة في حقيقة أمرها ليست سوى تتويج لمملكة العقل باعتباره أسمى نور يملكه الإنسان، فإن الإنسان نفسه لا يصير إنساناً إلا بعد مروره بمراحل تبدأ بالحال النباتية، وهي حاله عندما يكون جنيناً، ثم إلى الحال الحيوانية المعبر عنها بحراكه واشتهائه للأكل والملذات، وأخيراً تكتمل إنسانيته في المرحلة العقلية التي هي أسمى المراحل، وبذلك يكون الإنسان إنساناً.

ابن باجة بين التوحد والاغتراب
آثر ابن باجة العزلة والابتعاد عن الناس وأولى موضوع التوحد والاغتراب عن الواقع المعاش أهمية في كتاباته، مع ما تبعها من معاناة شخصية ونفسية دفعت به إلى "التنظير" للعزلة، مع ما فيها من يأس من الحياة في جوانبها السياسية والاجتماعية.

إن فلسفة ابن باجة في مجملها تعبر عن القلق الذي يعيشه الفيلسوف بشكل عام، وكتابه "تدبير المتوحد" يعبر عن فشله في تحقيق "برنامجه السياسي" المتصل برؤيته للمدينة الفاضلة واستحالة الوصول إليها في زمانه.

يعرف ابن باجة "التدبير" بأنه خطة الإنسان العاقل في سلوكه الاجتماعي وممارسته السياسية في مجتمع يفتقد إلى العقل في تحديد السلوك، ويشدد على أن الفلاسفة يجب أن يعيشوا وفق ما يقتضيه العقل ليمكن لهم الوصول إلى السعادة الروحية التي يراها أسمى مظاهر الحياة الدنيا.

وخلافاً لكثير من فلاسفة، يرى ابن باجة أن الفلسفة هي لجميع الناس الذين بإمكانهم النهل من معطياتها؛ لذا اعتبر أن الفلسفة أو التدبير شأن خاص بالإنسان؛ لأن الإنسان وحده يتميز عن سائر الكائنات الحية بالفكر، والإنسان في رأيه يسعى بشكل دائم لتحقيق السعادة، ومن هنا يرى أن الفلسفة تحمل غاية عملية هي تحقيق سعادة الإنسان، وهذه السعادة تتحقق عن طريق وصول الإنسان إلى أعلى مراحل التعقل التي يجسدها العقل الفعال. لقد ربط ابن باجة بشكل وثيق سعادة الإنسان بالعقل وبحرية الاختيار.

أثار ابن باجة قضية لم يجرؤ فلاسفة مسلمون قبله على التطرق إليها بشكل نقدي، ألا وهي مسألة النبوة وما تثيره من جدل حول العلاقة بين المعرفة التي تأتي عن طريق العقل والمعرفة الآتية عن طريق الوحي، كما يشدد الإسلام على هذه الناحية.

تنحو فلسفة ابن باجة إلى أولوية العقل على الوحي، وتتجلى أكثر في أحاديثه عن قدرة الإنسان على رؤية الحقيقة والوسائل اللازمة لذلك، فلا يشير إلى الأنبياء عندما يتطرق إلى هذه الناحية، بل يركز على أرسطو وغيره من الفلاسفة بوصفهم المنارة التي تؤمن الوصول إلى المعرفة الإنسانية الصحيحة.

ويذهب ابن باجة أبعد من ذلك بامتناعه عن أفراد موقع متميز للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، أو وضعه في درجة تعلو سائر الأنبياء كما يقدم النص الديني الرسول مقارنة بأترابه السابقين، وهو بذلك يخالف النظرة الإسلامية السائدة حول موقع الرسول، مما عزز النظرة المعادية لابن باجة من قبل الفقهاء ورفع درجة الاتهامات له بالكفر والإلحاد.

إن عمق الإشكال الذي طرحه ابن باجة في الكتابات الفلسفية التي ارتبطت به، تجعل من واجبنا كقارئين لتاريخ الفلسفة ألا نتغافل عن الأحداث المادية والفكرية التي جعلتنا نختلف عن أسلافنا وجعلتهم غرباء عنا. والحدثان الأساسيان اللذان حصرا مشكلة ابن باجة في تاريخ الفلسفة هما:

أولاً: لقد بادت المدينة التي كان ابن باجة يفكر داخلها وانتهت، فأفول الحضارة الإسلامية في بلاد الأندلس قطع الصلة بين فلسفتها والتربة التي نبتت فيها وهذا وضع أسوأ من وجود المدينة غير الفاضلة. وكذلك انفتاح أوروبا في العالم: بدءاً من العالم الجديد، ثم سقوط الخلافة الإسلامية واستعمار أراضيها، ومن بعد موجة الاستعمار دول قطرية مختلفة من إمارات ومملكات إلى جمهوريات هجينة في غالبها، لا هي بالقديمة ولا بالجديدة.

ثانياً: ورث "الغرب" فلسفة "الشرق" بالمعنى الواسع لكلمة فلسفة، وطوعها في نمط تفكير حضارة متجددة قوية وذات منحى كوني فكراً وفعلاً، وعلى ضوء هذين الحدثين أصبح العالم القديم والفكر المرتبط به يبدو غريباً.
*كاتب وباحث
*نقلاً عن هافينغتون

حول الموقع

سام برس