بقلم / عناية جابر
لا أستطيع تحديد العلاقة فعلاً، بين رغبتي بسماع الغناء العراقي والكردي والإيراني والأرمني في فصل الشتاء. ولعلّ الأمر بأسره لايعدو أن يكون وهماً، ولكن مصالحة روحية ما تكمن بيني وبين الشتاء وسماع البلوز وسائر الغناء الذي ذكرت، الأمر المترّفع عن الشرح ويناسبني تماماً عدم بذل أيّ جهد في محاولة شرحه .

عندما أُقاربُ  ما هو جميل ، ما أعتقد أنه جميل ، أقاربُه من ذائقتي ، من ذاكرتي وعلى مسؤوليتي .
على الرغم من انتمائي الأكيد لمدرسة الغناء المصرية ، أكنّ كذلك حباً أكيداً للغناء العراقي ، ويحدثُ أنه من مُتعي الباهظة – خصوصاً في الشتاء ولا أدري لماذا – الاستماع إلى أغنيات ليوسف عمر ، وحسين نعمة وزهور حسين ومائدة نزهة وخضيري أبو عزيز وزكية جورج وداخل حسن  .. وآخرين ، وخصوصاً إلى سليمة مراد التي ما أن تبدأ ب : " هذا مو إنصاف منّك " حتى أدرك أنني لم أتوّقف عن التفكير في ماهية السرّ المراوغ للغرام ، السرّ الذي تعرف هذه السيّدة بعث رسائلها المُشفّرة عنه ، بسخاء صوتها وشجنه الخاص .

لا أستطيع تحديد العلاقة فعلاً ، بين رغبتي بسماع الغناء العراقي والكردي والإيراني والأرمني في فصل الشتاء . ولعلّ الأمر بأسره لايعدو أن يكون وهماً، ولكن مصالحة روحية ما تكمن بيني وبين الشتاء وسماع البلوز وسائر الغناء الذي ذكرت، الأمر المترّفع عن الشرح ويناسبني تماماً عدم بذل أيّ جهد في محاولة شرحه .

من الطبيعي والمنطقي أن يفعل الغناء فعله في مشاعرنا الإنسانية فينهمر تجاوبنا العاطفي مع أصوات بعينها من دون مساءلة عن طبيعة هذا التجاوب ، المهّم أن ينهض،  ما أن يُرسل الغناء من هذه الحنجرة أو تلك . القبانجي في غنائه يفرض عليّ هذا النوع من الوجد ما أن أسمعهُ .

لا أتكلّم هنا عن كمال الأصوات وتقنياتها العالية ، أتكلّم عن إمكانيات الأداء العاطفي من دفء وشاعرية وإحساس وعاطفة وخيال وروح .

عبد الحليم حافظ بهذا المعنى لم يتمتّع برفعة الأصوات وتقنياتها العالية ، لكننا نسمعهُ للأداء العاطفي الذي يتمتّع به ، ونُحبهُ لكل تجلياته الشعورية التي ذكرنا .

هل يكمن الجمال في الصوت فعلاً ؟ أم هو صنيعة عملية الاستماع ، أي عن الأذن التي تستقبلهُ ؟ مناهج الفكر الحديثة تفسّر الجمال على أنه لا يوجد في المبدع ولا في ذات المستمع ، بل هو قيمة مجرّدة . الجمال الذي يصلنا عند عملية الاستماع متأت من خبرات موروثة ، وأخرى نتذكّرها من مترسّبات عقلنا الباطن . أما النسب التي تجعلنا نميل شعورياً إلى هذا الصوت الجميل من دون ذلك الصوت الجميل مع ذلك،  فترتبط بشخصيتنا والرغبات الكامنة فينا . لابد أن تكون هناك مشاعر روحية وخبرات مشتركة تربط بين المغنّي  وبين المستمع الذي يتعرّف على الجمال الكامن في الصوت في عملية تواطؤ ما ، على أمر ما ، وإلا فإن قيمة الجمال لايمكن تذوقّها وبالتالي تفسيرها .

تُغنّي فيروز ، فتحملُ عنّا وِزر هذه الحياة الصعبة ، وتغنّي أم كلثوم فنصاب بلوعة الكلف ، يغنّي عبد الوهاب فنمسك بناصية الرفعة والعبقرية ، كما تُغرّد أسمهان نيابة عن البلابل التي هجّت من العالم ، كما في صوت ليلى مراد بهجة الحياة وخفتهّا . كما من مُتعي العالية تلمّس الصوت الرطب لزكية جورج على جدار قلبي ، وغرامي الأقصى الاستغراق بشدو ماري جبران في :" كادني الهوى " ، كما محمّد عبد المطلب يمازح الوقت في : " بيّاع الهوى راح فين ؟ " ونجاح سلام التي تستدرّ الدمع في كل ما غنّت ، وخضيري أبو عزيز يتغاوى في : " سلّم عليّ بطرف عينو وحاجبو " في ما صوت يوسف عمر يسأل : " قللي ياحلو منين الله جابك ؟ " ، ويظل يتردّد صوت سليمة مراد في أذني : " يانبعة الريحان حنّي على الولهان " .

في الأغنيات العراقية الجيّدة ، ما من أنين يجري تبديده ، وليست هناك شكاية واحدة أو تنّهد واحد يفتقر إلى الفجور الشعوري – فجور الشكاية من الوله أعني – كما تحظى أن تكون شعورية فاجرة بشكل لاعودة عنه . عالم الأغنيات العراقية يعّج بالغرام إلى درجة الاختناق . درجة الموت منه ، ويغلي بالنداءات والمناشدة ، والبذل ، ثم أنني أنا من أستمع ، أنا من أصغي ، ولا يعود يقتصر الأمر على أيّ المطربين أو المطربات هو الذي يغنيّ ، بل هي رغبتي التي تتسلّل من ذاتها إلى ذات المغنّي وتطالبهُ بأن يكشف الحب عن سرّه لي . أنا على امتداد عمري المُدمن على سماع الأغنيات الغربية  والشرقية الجيّدة على السواء،  كنت أقتات من هذا التلاعب الشعوري ، وكان يداهمني في فصل الشتاء أكثر من باقي الفصول ، ففي الشتاء ذلك النوع من الصمت المضمر ( لاعلاقة لصخب الرعد أو صوت العواصف أو هطول المطر بالصمت ، فهنا صمت من نوع آخر ) الذي يسمح بدخول محارة القلب . الغناء العراقي مرتعهُ الشجن وإغواء التجوال من دون هدف في التباسات المشاعر اللاهبة ، ويفترق هنا إلى حدّ عن سائر الغناء وعلى سبيل المثل المصري الذي يبقى يحافظ على وقاره حتى في أقصى مناشداته العشقية .

لتحقيق أهمّ عناصر التذوّق ، نربط بين أسلوب الغناء ، وبين الخلفية الثقافية للعصر الذي نبع وتفجّر عنه ، لأن مميّزات المجتمع السائدة على وجه الخصوص ، المميّزات الفكرية والثقافية ، تكون عادة هي نفس السمات التي تنطبع على العمل الغنائي والموسيقي المنتمي إلى هذا العصر وذاك ، ولا يوجد خلاف على أن معرفة الخلفية الثقافية لكلا الأمرين ، تمثل عاملاً مهماً في إثراء الخبرة التي يكتسبها المستمع .. هذا عن ملامح الوجه والقَسَمَات والسِمات المادية ، فما بالك بما تضمرهُ الروح حيال هذا الصوت أو ذاك ؟
*شاعرة وكاتبة لبنانية
المصدر: الميادين نت

حول الموقع

سام برس