بقلم / د.اكرم العجي
يعد الفساد من أكثر المفردات الشائعة والرائجة  في مجتمعات اليوم، فتجده حاضراً في ادبيات المؤسسات الدولية وفي برامج الحكومات والأحزاب السياسية تجده حاضراً في خطابات الساسة والمفكرين والأدباء والأكاديميين..... الخ .  حتى من هم في نظر أبناء المجتمع فاسدون تجد الفساد حاضرا في خطاباتهم . حيث يرفعون شعار مكافحتة  في العلن ويمارسونه في الخفى.

الحضور القوي للمفردة في الخطابات والمهرجانات والمؤتمرات دليل قوي على عظم وكارثية الأثار المترتبة على إتيانه التي لا تقل آثاره عن آثار الحروب والصراعات المسلحة، إن لم تفقها في بعض الجوانب. وعلى مستوى ممارسة الفساد فقد عرفته جميع شعوب وبلدان العالم القديمة والحديثة، وإن اختلفت درجة استشرائه من مجتمع إلى آخر ومن وقت لآخر.

واليمن كغيرها من البلدان فقد  عرفته في الماضي الإمامي والعهد الجمهوري وحتى اللحظة الراهنة. ففي العهد الإمامي عمد أئمة الفساد على إقامة نظام حكم قمعي متسلط مستبد يلبي أهداف الأسرة ويضمن استمرار بقائها، وفي ظله سلبت الحقوق وقيدت الحريات واريقت الدماء وازهقت الأرواح من أجل الفرد وأسرته.

لقد كان أئمة الظلام ينظرون إلى الدولة ورعاياها كجزء من املاكهم الخاصة، وقد كانت اليمن في تلك الفترة أشبه بالمزرعة التي يملكها الفرد فيحق له التصرف فيها كيف ما شاء ووقت ما يشاء دون رقيب أو حسيب، وفي الوقت نفسه فقد عرف الشطر الجنوبي من الوطن أبشع أنواع وصور الفساد حيث سخرت السلطات الإستعمارية الأرض والإنسان لتحقيق اطماعها. والفارق بين فساد أئمة الدين في الشمال ورعات الإرهاب  في الجنوب ( الإستعمار ) هو أن الأول أفسد الحياة والإنسان والثاني قوض الحياه ولم يفسد الإنسان.
 
ومع انتهاء الهيمنة الأمامية والغطرسة الاستعمارية في ستينات القرن الماضي، انتقلت السلطة إلى أيادي المناهضون لفساد الأئمة وظلم الاستعمار، ومعها انتقلت دائرة التسلط من يد الفرد إلى يد المجموعة.  وقد اتسعت مظاهر الفساد إلى درجة غير مألوفة حيث عمد كل مسؤول جمهوري في التصرف كإمام جمهوري، وهنا تكمن كارثة اليمن منذ عام  62 وحتى اللحظة. وبهذا اتسعت دائرة الفساد وتعددت صوره وتشابكت حلقاته إلى درجة  جعلت من النخب اليمنية أن تقف عاجزة امام الاغراءات المادية والمنافع المعنوية التي تنتجها السلطة.

اما الشطر الجنوبي فيمكن القول أن مظاهر الفساد أقل شيوعاّ عن شماله، بسبب ضمور الثقافة القبلية ونشوء ثقافة طابعها التمدن. وهذا لا يعني غياب الفساد، فالأحداث الدامية التي شهدها الشطر الجنوبي وخصوصا أحداث يناير 1986 دليل على أن الفساد سيد الموقف فقد ارتهن الجميع إلى السلاح من أجل الوصول إلى السلطة.

ومع نشوء الدولة الوليدة في 1990 (الجمهورية اليمنية) بين شطري الوطن أتسعت دائرة الفساد ورافق ذلك نشوء شبكات المصالح ، وقد أعتمد قادة النظام الوليد على سياسة تقاسم السلطة بدلاً من تداولها. ومع انفراط عقد الوحدة في 1994 تعاملت النخبة المنتصرة في الحرب بعقلية الغانم المنتصر فنهبت مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وصادرت بعض الأراضي  في الجنوب، وفي هذه المرحلة بالذات عمدت نخب النهب والفساد على إقامة شبكة علاقات قوية أصبحت قادرة على فرض نفوذها واحتكرت جميع الأنشطة والأعمال وهيمنت على البلاد والعباد بقوة السلطة والسياسة.

المحزن بأن اليمن عرفت الفساد على يد النخبة فساد مس مختلف القطاعات – فساد سياسي – مالي – إداري- ثقافي- اجتماعي.  تجسد ذلك في فساد الأحزاب وإفساد الديمقراطية وفي استغلال النفوذ والسلطة  والجمع بين السلطة والتجارة وبروز الرشوة والاختلاسات واحتكار الاعمال والمشاريع وتجاوز القوانين وإفساد الحياة والإنسان، وغياب العدالة وانتشار الفوضى وغيرها من المفاسد. كل ذلك شوه صورة الدولة وزعزع ثقة المواطنين فيها .

لقد استطاع أسياد الفساد خلال العقود الماضية تكوين منظومة فساد والتي جعلوا منها قاطرة أمان تقودهم إلى المناصب والأموال وتحقيق الامتيازات وبحكم سيطرة هذه المنظومة على مصادر القرار استطاع اسيادها تحويل الدولة إلى قطاع خاص وبحكم العلاقة القوية بين الأسياد عطلت القوانين وأهدرت الموارد وشلة فاعلية المؤسسات، وحلت قيم النهب والفساد محل قيم النزاهة والأمانة، مما أدى في نهاية المطاف إلى خلق طبقة من الأثرياء الذين استحوذوا على مقدرات البلاد وخيراتها. ولقد أحاط ارباب الفساد أنفسهم بمجموعة من القوانين المصطنعة التي تحميهم من المسألة والمحاسبة في ظل صمت حكومي ووهن مجتمعي. 

   لقد احترف أسياد الفساد السياسية وجعلوا منها وسيلة للاغتناء اللامشروع، الأمر الذي جعل الفساد في اليمن فساداً منتجا بل أضحى عملا مشروعا في نظر الكثير من ابناء الوطن. وعلى يد هذه المنظومة اصبح الفساد قادرا على التوالد والتنامي والتجديد ، حتى أصبح قاعدة واسلوباً ومنهجا للحياة، بل أصبح نظاماّ موازياً للنظام السياسي والاجتماعي.

  إذا كان الوطن في عهد الظلام أشبه بالمزرعة التي يستأثر بخيراتها فرد وأسرته، فهو اليوم أشبه بالحصان الذي يركب عليه كل من يرد مسابقة الزمن والوصول لغاياته وأهدافه الموسومة

حول الموقع

سام برس