سام برس / عبدالكريم المدي
ما ستقرأونه هنا ليس قصة أسطورية من نسج الخيال إنما هي حادثة حقيقية حدثت في مدينة عدن ( حارة المغتربين) .

كانت الساعة الثانية بعد متصف الليل قبل عامين من اليوم تحديدا، وبينما كان اطلاق النار في كل مكان والجيش واللجان الشعبية ينسحبون ، لمحت ( أم سحر)أربعة جنود وصلوا للتو، يختبئون أمام منزل والدها، خلف " دينه " ،اثنان منهما توجها إلى جوار مصنع درهم ،حيثُ يتواجد مسلحو ما تُسمى بـ المقاومة ،وسلما أنفسهما لهم .

تقول لي " أم سحر": بينما كان ينتظر الاثنان المختبئان خلف" الدينه" يُراقبان بخوف رهيب ما سيحدث لزميليهما، فإن تم أسرهما سيلحقان بهما وإن قتلاهما سيحاولان الفرار في أي أتجاه رغم أنهما لا يعلمان إلى أين يتّجها.

وتضيف، لحظتها كنتُ أشاهد ما يجري مذهولة ،وبمجرد وصول الجنديين إلى أيدي الموت مستسلمين أمروهما بوضع أيديهما خلفهما وقام بركلهما الأرجل وهم يصرخون في وجهيهما بأصوات مفزعة قائلين: يا مجوس، يا عفافيش، ياروافض...طُرِحَت الضحيتان أرضا
وبعد تلذّذ قصير بها،قاموا باطلاق وابل من الرصاص على رأسيهما ورموهما أمام جامع المغتربين.

وتضيف ،وفي تلك اللحظة التي تمنيتُ لو أن الأرض أنشقت وأبتلعت المكان،أشرت للمختبئين أمام منزلنا بالدخول إلى البيت، فدخلا وهما في حالة لم أشاهد مثلها ولن أشاهد ما حييت ، قلت لهما هذا الحمام اغتسلا سريعا وهذه الملابس( أعطيتهما معوزين وقميصين من حق إخواني) بدلا عن الميري، وأذكر أن أحدهما قال بإنه من منطقة أرحب في صنعاء ، وأحدهما - أيضا- دعا الآخر باسم صدام أو ما شابه.

المهم ..حاولا أخذ الميري معهما في " كيس" دعاية ،فقلت لهما الميري سيقتلكما ،وأخذته ووضعته في الموفا،لأنني متوقعة ما سيحدث لاحقا( تفتيش بيتنا،وفتحت لهما الباب الخلفي للبيت ،وقلت لأخي يرشدهما على الطريق كي يصلا إلى فرزة القاهرة في الشيخ ، فسار بعيدا عنهما بعض الشيء كي لا يلحظه أحد، والحمد لله أوصلهما إلى الفرزة وتطمن على دخولهما البيجو وعاد ،ولا أعلم بعد ذلك ما الذي حدث لهما.

للعلم أن أحدهما كان يحمل معه مصحف صغير، وورقة قال إن فيها أرقام تلفونات.

حكم الإعدام  الفوري الصادر بحق " أم سحر " :

وتواصل ابنة اليمن وعدن الأصيلة  سردر وايتها المشرّفة والمؤلمة،والدموع تنهمر من عينيها.. مشيرة أنه وأثناء انقاذها للجنديين، لمحهما شخص ( مطوّع) وترمز لاسمه بـ (م .ف.ح.ي) والذي بلّغ ما تُسمى بالمقاومة ، الذين جاءوا إلى البيت بعد مغادرة الجنديين مباشرة ،وقد كانوا يضربون الباب بقوة أحسسنا معها،أنه أقتلع، اقتحموا البيت ووضعوا أسلحتهم فوق رأس والدي وأخي وابني، يُريدون الشمالين الذين خبأنهم عندنا، قال لهم والدي ليس عندنا أحد ، قاموا بتفتيش كل ركن وزاوية في البيت، انهوا التفتيش، وبعده عادوا وصوبوا الأسلحة فوق رأسي، يُريدون أن يأخذوني معهم ،لكن والدي ترجّاهم وقال لهم تأكدوا من صحة المعلومات وإذا تاكدتم ارجعوا خذوها، فخرجوا وبعد ساعتين تقريبا ،بُلّغ والدي بأنهم سيأتون إلى البيت لأخذ" أم سحر" مع خمس نساء أخريات إلى الجولة لتنفيذ حكم الإعدام بحقهنّ..

مغادرة أم سحر وأطفالها للبيت :

 بعد ذلك البلاغ  غادرت من الباب الخلفي للمنزل مع أطفالها في تمام الساعة السادسة صباحا مشيا على الأقدام، متجهة إلى منزل خالتها في الشيخ عثمان، وهناك أنتظرت حتى السادسة مساء ،ومن ثم أتجهت مع أطفالها إلى فرزة القاهرة واستقلّت بيجو صوب تعز،وهذه الرحلة والمغامرة الجديدة حكايتها تطول، وتحديدا حول ما شاهدته في طريقها في طور الباحة والعند والحبيلين وصولا إلى تعز .

إعدام خمس نساء في جولة السفينة وإحداهن حامل في الشهور الأخيرة:

أم سحر التي انقذت الجنديين وهربت إلى صنعاء واليوم شريدة  هي وأطفالها في شوارعها،بعد أن طردها صاحب البيت الذي كانت تسكن فيه في منطقة الجراف بسبب عدم مقدرتها على دفع الإيجار..

تقول لي أن " المقاومة" وصلوا بيتها بعد خروجها بوقت قليل ،ومعهم خمس نساء أخريات، يريدون ضمها إليهن والذهاب بهن إلى جولة السفينة وإعدامهن هناك، لكنهم لم يجدوها، فأتّجهوا بالأخريات واعدموهن بالجولة، ومن ضمنهنّ أمرأة من منطقة البساتين كانت حاملة في الشهور ،ولم يشفع لها هذا لتُعدم هي وطفلها،بذريعة أنها والأربع الأخريات خبأن شماليين.

مشاهد مرعبة للساعات الأخيرة..أثناء إنسحاب الجيش واللجان من عدن:

استمّرت البطلة " أم سحر" تروي لي واقعا لا أشاهد له شبيها في أفلام هوليود ولا في الروايات ، فبشاعة ما حدث في عدن أثناء وقبل إنسحاب الجيش واللجان من عدن، تتعدى بشاعة المشاهد التي تضمنتها رواية ،كانديد لـ " فولتير" التي شكّل زلزال لشبونة العظيم والمدمّر عام(1755)مـ أساسا لها، حيثُ وصف فيها الرعب والمآسي الإنسانية والعنف والوحشية، بصورة صادمة ومرعبة.
وهنا تقول :قبل ثلاثة أيام من إنقاذي لأولئك الشابين ، كان هناك مجموعة من العساكر،من أبناء المحافظات الشمالية سلموا أنفسهم لـ ( المقاومة) وأحدهم كانت رجله مكسورة ،وقبل أن يعدموهم ويرموهم أمام مقبرة "داوود" كان أحد الجنود يترجّاهم ويستعطفهم بأن يعطوه شربة ماء ومن ثمّ يعدمونه لكنهم رفضوا وكانوا يعذبونه بوضع الماء أمام فمه وهو مكتّف ولا يعطونه قطرة منه، وبعدها قاموا بإعدامهم  واحدا واحدا وهم يصرخون فيهم  بأصوات مرتفعة ومخيفة ،مرددين ألفاظا وشتائم مخجلة.

وتضيف، كما كانوا يقومون بإطفاء أنوار الشوارع ويجبرون الأهالي على إطفاء أنوار بيوتهم ، كي يقوموا بتصيّد أي عسكري ،أو شمالي يمرّ في الأحياء والشوارع، مستغلين عدم  معرفة معظمهم بمخارج الشوارع والأزغاط حتي يتسللون منها ويهربون أو يختبئون.
 
أريد من يسترني أنا وأطفالي بسكن وملابس :

 لم تُفارق الدموع خد هذه المرأة التي تطول فصول حكايتها وما في جعبتها من حقائق تصدم الضمير الإنساني والتي ،يُمزّق وضعها المعيشي نياط قلب كل إنسان يحمل الرحمة والإنسانية  وقيم الوفاء، تقول لي:

والله يا أخي إنني الآن مطرودة في الشارع حطيتُ أولادي عند أمرأة طيبة في الحارة،رغم أن وضعها أصلا صعب جدا ، ولا أدري أين أسير أنا وهم،لا أجد لهم ملابسا ولا سكنا وأكل ، ولا أريد أن أموت وهم مشردين في الشارع ، لأنه ومن يوم فراري من عدن قبل وخوفي على أولادي وعلى نفسي حصل لي ضغط ، وتضخم في القلب ، وأشعر الآن أن قلبي سيشق ظهري وصدري ويخرج ،لا أجد من يقدّم لي شيئا، ولا أجد - أيضا- تكاليف العلاج ..

حياتي تحطّمت من يوم أنقذت الشابين ، رغم أنني راضية وضمير مرتاح..

أما زوجي ، فقد طلقني بالثلاث بسبب ما قمت به ، ولم يرسل لأولاده نفقة ريالا واحدا طوال هذه الفترة.
حتى ابني الكبير فيه حالة نفسية لأنهم ليلة ما خبأت العكسر في بيتي وهربتهم من الباب الخلفي، دخلت( المقاومة ) إلى منزلنا وهددوا أولادي وخاصة الكبير الذي وضعوا البنادق فوق رأسه، وكان يتوسل لهم بأن لا يأخذوني،اضافة إلى أنه شاهد (المقاومة) يقتلون الناس أمامه في الحي ويسحلونهم في الشوارع، وفي إحدى المرات شارك بحفر متر لأحد القتلى وقاموا بدفنه لأن جثته تحللت.

نداء:

نضع قضية ووضع هذه المرأة على طاولة كل القوى والمكونات السياسية والحكومة والتجار وأهل الخير وعلى طاولة أسرتيّ الجنديين الذين أنقذتهما،ففي حال وصلتهما ووصلت قبيلتهيما هذه الاستغاثة نتمنى أن يقوموا بردّ الجميل.

حول الموقع

سام برس