بقلم / الشيخ عبد الغني العمري ال
   إن الدين بكل أعماله ومعاملاته وأحواله، ليس إلا طريقا موصلا إلى الله. فالله هو الغاية، التي لا غاية بعدها. وقد قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقال سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]. لكن الناس حيال الدين ثلاثة أقسام:

1. قسم أخطأ الطريق، فهؤلاء هم أصحاب الشمال، الذين قال الله فيهم: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74].
2. قسم أصاب الطريق، ولكن قصُر عن الوصول إلى الغاية؛ وهؤلاء هم أصحاب اليمين، الذين قال الله فيهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ • وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39، 40]. وهذا يعني أنهم الغالبية من المؤمنين الأولين، ومن المتأخرين. ومآلهم إلى الجنة، من كونها محلا للحجاب (من الجَنّ). وعموم الفقهاء، من هذا القسم، إن كانوا صادقين.
3. والقسم الثالث، هو من تحقق له الوصول؛ وهؤلاء هم المقربون، الذين قال الله فيهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ • وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14]. وهذا يعني أنهم في الأزمنة المتأخرة أقل عددا.

       وبنظرنا إلى ما سبق، لا شك سنعلم أن فريقا واحدا، هم من يُعدون أهلا للإمامة في الدين، وللكلام في كل مراتبه، وهم المقربون. وبعد قطع الواصلين لخط الوصول، فإنهم يدخلون في مرتبة الربانية. والربانية طور ثان، في مقابل طور الدين؛ وليست حالا أو مقاما من مقاماته. وهذا يجهله كثير من السالكين، فضلا عمن دونهم. وإذا كان الدين طريقا إلى الله، وسفرا كما بيّنّا، فإن الربانيين سيكون لهم التمكين والقرار، المعبر عنه بالعندية الربانية، كما أخبر سبحانه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. وقد قصَر مفسرو الظاهر هذا المعنى على الملائكة، لكونهم لا يتصورون للبشر عندية إلا بعد الموت المعلوم. والحقيقة هي أن الربانيين، هم أهل هذه المرتبة، والأجدر بها في دنياهم، قبل آخرتهم.

       وبما أن نتيجة التدين، قد أعطتنا حالين للمتدينين: حجابا، ومعاينة؛ فإننا سنتكلم قليلا عن معنييْهما:
1. الحجاب: هو انقطاع المؤمن بالمخلوقات عن الحق، في الدنيا وفي الآخرة. والأصل فيه، هو عدم تجاوز الإدراك لظاهر المحسوس والمعقول. غير أن لأهل الجنة يوما (يوم الجمعة) يخرجون فيه إلى الكثيب لرؤية الله على قدرهم. وهذا هو الفرق بين حجاب المؤمن وحجاب الكافر. نعني أن الكافر محجوب هو أيضا؛ لكن مع يأس من الخروج من جهنم، ومن الرؤية. والمحجوب من المؤمنين، في الحقيقة، يكون إثمار الدين له جزئيا، غير كامل؛ ما دام الإثمار الكامل هو رفع الحجاب.

2. الوصول: معه يتجاوز إدراك المرء المخلوقات من حيث هي، ليصل إلى ما فيها من أسرار إلهية، يزداد معها معرفة بربه في كل حين. وهذا الصنف من الناس، يكونون مع الله في الدنيا وفي الآخرة. وهم في الجنة أهل الفردوس الأعلى، العاكفون في حضرة ربهم.

       وتبعا لِما ذكرنا، فإن الدين ينبغي أن يُعرض على أصله، دالا على الله وحده؛ ليتنافس الناس فيه، بين واصل ومتخلف. أما إن عرض منقوصا من البداية، وكأنه لا وصول؛ فهذا هو التحريف الذي ذكرنا أن الفقهاء وقعوا فيه، جيلا بعد جيل. وهو سبب هذا الضعف الذي تعرفه الأمة نتيجة لاعتراض عوام المؤمنين (أهل الحجاب) على الربانيين، الذين بلغوا الغاية من الدين. وهذه الحال، لا شك ستصيب جسد الأمة باضطراب، يمنعه من الحركة السوية، الضرورية لتحقيق الكمال المنشود.

       وبما أن الفقهاء لا يتمكنون من إنكار وجود الربانيين، مع تنصيص القرآن عليهم؛ فإنهم لجأوا إلى تحريف معنى الربانية، لتصير في النهاية حالا لبعضهم. لهذا تجدهم يُضفون هذه الصفة على أفراد منهم، يرونهم بحسب معاييرهم، أهلا لها. والحقيقة هي أن الربانية مرتبة قائمة بذاتها، مخالفة لمرتبة الفقهاء مخالَفة كلية من جهة العلم. وإنه لما ذكر الله المرتبتين في آية واحدة، فإنما ليدل على مرتبتين مختلفتين، لا على مرتبة واحدة؛ فقال سبحانه: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]؛ نعني أن الربانيين هم غير الأحبار حتما.

       لا بد الآن أن نفهم أن الدين من كونه طريقا، لا ينبغي للمرء أن يقف عنده وكأنه الغاية؛ وإلا عاد الطريق منزلا، كما لا يخفى. وكما أنه لا ينبغي للإنسان أن يقف عند الدنيا، وينسى الآخرة، فكذلك في تدينه، لا ينبغي أن يبقى مع الدين وينسى ربه. نحن نعلم أن هذا المعنى جديد على كثير من المسلمين، ولكنه الحق الذي لا مراء فيه. وهذا الذي نقوله، لا يعني ترك الشعائر والعبادات بعد تحقق الوصول، كما سيتبادر إلى أذهان المتعجلين؛ وإنما يعني أن يصل العبد في عباداته، إلى حقيقتها، عند إدراك أسرارها المودعة فيها. وهذا هو اللائق بمرتبتها في الحقيقة، لا ما يتوهمه العوام من كونها حركات وهيئات وأقوالا، لا مطلوب وراءها. إن الشعائر في الإسلام، ليست طقوسا جوفاء!.. وإلا فما معنى ربانية الدين؟!..

(كُتب هذا المقال بعد مضي أكثر من خمسة أشهر من السنة الثالثة من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن).

حول الموقع

سام برس