بقلم / جمال الجمل
(1)
رائحة شيء يحترق تملأ الجو من حولي، الهواء لزج مشبع برطوبة "مقرفة"، كائنات الأمن المركزي السوداء تحاصر المكان، حالة الانقباض التي استيقظت بسببها مبكرا  تزيد من شعوري بالاختناق، مصر كلها تحت الحجب، والمطلوب من المصريين أن يتعايشوا مع هذه "القاذورات" باعتبارها "حياتهم" وباعتبارها دليلا على محبتهم لدولة الشلاء ولقائدها الذي أعلن عن استعداده لبيع نفسه (إذا كانت البيعة تنفع)، ولما كان القائد "سلعة بائرة" لم تجد زبونا يشتريها.. أو "سلعة متباعة من قبل لجهات أخرى"، فقد  برر إعلان القائد عن بيع نفسه، فكرة بيع  كل شيء غيره، حتى لو كان الوطن هو السلعة.

(2)
هكذا وصل بنا الحال في قضية "تيران وصنافير"، سلطة تحاصر شعبا يخرج للدفاع عن أرض الوطن، وتعتقل العشرات من الشباب الوطنيين، بدلا من تكريمهم، سلطة تدفع مؤسسات الدولة للتدليس، وتلفيق الوثائق، وتنتهك الدستور وحكم مجلس الدولة، حتى صارت مصر بلد العجائب والغثيان، فالمجلس الذي يمثل الدولة.. مع الشعب، والمجلس الذي يمثل الشعب.. مع الدولة!. مجلس الشعب يخون ثقة الشعب ويتحول إلى أداة تمرير لاتفاقية تؤدي لأول مرة في تاريخ مصر للتنازل عن لحم الوطن بالتفريط الاختياري، وليس كرها في حرب، بينما مجلس الدولة يرى أن هذه الأرض مقطوع بمصريتها ولا يملك كائنا من كان التفريط فيها.. حتى الشعب نفسه، لأن الشعب الذي سيخرج اليوم في استفتاء، ليس هو المالك الوحيد لأرض الوطن، بل مجرد مستخدم ومنتفع يحافظ على هذه الملكية حتى يتسلمها جيل سيأتي.. واجيال غيره ستأتي مع تعاقب التاريخ، فلا يحق لجيل اليوم أن يبيع مالا يملك، حتى لا يأتي يوم على الأولاد لايجدون فيه الأرض التي باعها الأجداد

(3)
تحت الحصار سألني جاري: مالك؟.. مش عادتك.
كنت صامتاً.. منزويا..  كأنني تمثال، لم أنطق، فقط نظرت في وجهه بلا تركيز وابتسمت ابتسامة مجاملة خاطفة وعدت إلى صمتي متأملا ما وصلنا إليه:

مساكين نحن أيها العرب .. نعيش أياما قاسية تدوس على كرامتنا وعلى أراوحنا،  ويتم دفعنا دفعاً إلى التقاتل حتى الموت، لا لمصلحة، ولا حتى لأطماع، ولكن كعبيد روما من أجل مشيئة الأسياد.. لقد صرنا لا نملك من إرادتنا شيئا.. لا الفقراء يملكون إرادة وحرية اختيار، ولا المنعمون في قصور التبعية والمذلة يملكون، لأنهم يعيشون وينعمون كما كان الجواري والخصيان  يعيشون وينعمون.

(4)
منذ الليلة الفائتة كنت مشغولا باختيار موضوع هذا المقال، وكانت كرابيج المهانة تستدعي من الآهات أكثر مما تستدعي من الأفكار، وكانت كثرة القضايا تؤدي إلى التشتت ولا تؤدي إلى الاختيار والتركيز، حتى بدت لي الكتابة عبثا لا يقود إلى نتيجة في واقع تحكمه العصيان الغليظة والرؤوس الفارغة.. كل الكلمات مسفوحة على الأرصفة.. الحكمة مهانة تحت احذية الجلافة والحمق، والعقل يمضي في الطرقات مخبولا بملابس ممزقة ولعابه يسيل على لحيته الكثة، بينما الجهل يلمع على الشاشات، تحت ثريات الكريستال المبهرة، وأمامه ميكروفونات الكذب الصريح، فأي كتابة يمكن أن تولد وتحبو في هذا النفق اللعين؟

(5)
في اعتصام الأرض ليلة اقتحام الأمن لنقابة الصحفيين، كنا نناقش أساليب المواجهة، وتباينت الآراء، لأن شياطين التفريط اختاروا التوقيت  بحيث يكون الشارع في اضعف حالاته، البيوت تحت وطأة امتحانات الثانوية العامة، وصيام رمضان في يونيو، وخطوات متوالية لتكميم الإعلام وحجب كل الأصوات التي لا توالي السلطة، واقترح الحكماء واصحاب الخبرة النضالية التدرج في المواجهة، بينما صمم الشباب على سرعة النزول الفوري إلى الشارع، وحاولت في كلمتي الجمع بين كل الأساليب موضحا أن أي حرب تسبقها مناوشات، ومعارك صغيرة ومتفرقة، واشترطت أن تكون قيادة الحراك الشعبي هذه المرة متنزهة عن مشاريع الوصول للسلطة، حتى لا تغرينا غنائم أحد عن نصر يوم بدر، وهو ما لمست بشائره في اليوم التالي أمام  نقابة الصحفيين،  كانت هذه الانتفاضة السريعة جرعة أمل،   واجهت بها شعور "القرف" الذي ملأني تجاه غباء الدولة البوليسة، فانتحيت ركنا وكتبت بعض التغريدات التي حرصت أن أضمنها في هذا المقال باعتبارها "آهات" هي كل ما كنت أملكه عندما فكرت في الكتابة تحت الحصار.
* نقلاً عن عربي 21

حول الموقع

سام برس