بقلم/ وليد أحمد العديني
لم يكن مرغما على قرع الباب فقد كان مفتوحا..وبامكان طه ان يدخل الى ساحة المدرسة..لكنه ظل يقرع الباب بخجل..الى ان لامسه الياس من ان يكون هناك احد بالداخل يسمعه..حينئذ كان الوقت بعد العصر والهدوء يسود مبنى المدرسة وفصولها مغلقة..ولا يوجد ما يشير  وجود آحد فيها..فالساحة الكبيرة للمدرسة كانت  خالية تماما..عدا تلك الرسوم الزيتية على جدرانها.

عاد طه الى سيارته المرسيدس(ذات اللون الاسود) المتوقفة في مدخل الشارع..المؤدي الى البوابة الجنوبية للمدرسة..وقبل أن يستقل السيارة..سمع صوت من جهة البوابة..يناديه (يا أستاذ) فاستدار وسار باتجاه الشاب الذي ناداه وبابتسامة خفيفة أرتسمت على وجه الشاب النحيل..استقبل طه وصافحه وسأله : أي خدمة يا استاذ ؟.

فإبتسم طه وقال: لا شيئ شكرا لك.. أنما أبحث عن (العم عفيف) حارس هذه المدرسة.
وبسرعة وبحروف حزينة قال له الشاب : تبحث عن والدي رحمه الله..فقد مات الاسبوع الماضي ثاني أيام عيد الفطر ..وانا ابنه(محمد) ولا أدري أن كنت أستطيع خدمتك.

ربت (طه) على كتف (محمد) الصدمة سماعه لخبر موت العم عفيف..ترتسم على ملامحه. وبحزن قال : عظم الله أجرك يا (محمد) ورحم الله والدك..فقد جئت لزيارته فقط.. لاني كنت أقضي بعض أعمالي بالقرب من المدرسة..وتوقفت للسلام والاطمئنان عليه..فانا لم اراه منذ 37 عام مضت.

سارع (محمد)حينها بالترحيب ب(طه) وقال له : الحمدلله على كل حال..وعموما أهلا وسهلا بك..فصديق والدي صديقي وانا تحت أمرك في أي خدمة تطلبها، وبابتسامة حزينه قال( طه) وعيناه تترقرق بالدمع : العم عفيف لم يكن صديقي..ولكني مدين له بحياتي..فقد أنقذني يوما من الاعتقال .

وسرد (طه)التفاصيل : حين كنت مدرس(مادة التاريخ) في هذه المدرسة..ففي عام(1979) داهمت قوات من الامن الوطني المدرسة..بحثا عني بحجة نشاطي السياسي يومها..وفيما هم منشغلين بالبحث عني.. سارع العم عفيف بتامين خروجي من المدرسة من البوابة الصغيرة الواقعة بالجهة الغربية للمدرسة.. ثم تمكنت عائلتي من تامين خروجي من صنعاء والانتقال الى عدن..ومنها ألى جيبوتي.

وتابع  : هناك فتح الله على ورزقني وبارك في تجارتي..وأستقريت هناك مع زوجتي وولدي، ولم أعد الى صنعاء الا منتصف رمضان الماضي..بسبب وفاة أختي ووجدتها فرصة لاتجول في صنعاء. وأقضي بعض الاعمال فيها..ولطالما نويت زيارة والدك خلال ايام رمضان..لكني للأسف لم أتوفق.

وبملامح تغمرها الحيرة يكرر( محمد) الترحيب ب(طه) وهو لا يدري ماذا يقول له سوى أهلا وسهلا بك..وأنا تحت أمرك في أي خدمة تطلبها!!!
ويكرر( طه) شكره ل(محمد) ويسأله بحزن : كيف توفى والدك؟.

وبعد لحظات من الصمت يتهدج صوت( محمد) بالبكاء ويقول : لا أدري ربما ذبحة صدرية..فقد وجدناه في غرفته وعلى فراشه وقد فارقت روحه الطاهرة الى الله عزوجل.. وأشار ألى بيت شعبي صغير يتكون  من غرفتين فقط ومسقوف بالواح الزنك..ملحق بالمدرسة من الداخل.

شكل المبنى واهترائه شد (طه) فتحرك طاويا ذراعه على كتف (محمد) وسار باتجاهه وتجاوز باب المدرسة..الى ان وصل الى باب البيت..ليجد أربعة أطفال وبنتين باعمار صغيرة متفاوته وسأل عنهم : من هؤلاء ؟..العم عفيف قبل وفاته بعشر سنين تزوج أمراة آخرى وأنجب منها ستة أطفال اربعة اولاد وبنتين..أما (محمد) واخيه( علي) هما من زوجته الاولى..ماتت منذ خمسة عشر عامآ..وجميع افراد العائلة يسكنون هذا المنزل الصغير . الذي حصل عليه ( العم عفيف) أثناء حياته و تخصيصه كسكن له ولعائلاته كونه حارس المدرسة.

فهم (طه) من حديثه مع (محمد) أنهم مهددون بالطرد من السكن لوفاة والده..وأن (محمد) يسعى الحصول على فرصة التعاقد مع أدارة المدرسة..ليعمل كحارسا بدلا عن والده..كي يبقى في المنزل وحتى لا تتشرد اسرته..فهو لم يواصل تعليمه ودخله من عمله في المدرسة كمدرس(مادة الرسم)لا يكفي لتامين سكن لزوجة أبيه واخوته ، وكانت أدارة المدرسة في وقت سابق قد أمنت له وظيفة مدرس للرسم..لانه كان يتمتع بموهبة ربانية  أنعم الله عليه بها..في مجال الرسم..دون أي دراسة في كلية او معهد متخصص ، اما اخيه (علي) فهو يعمل سائق لموتور سيكل(دراجة نارية) وما يكسبه لا يكفي تامين حاجاته.

همس (طه ) بحزن ل(محمد) وقال : أنت عندك موهبة وستكسبك الكثير من المال.. ان احسنت استغلالها..ووالدك بالتاكيد له راتب تقاعدي..يساعد ولو قليلا في تامين حياة أخوتك. وأنا ساعمل كل جهدي للتواصل مع أناس من ذوي النفوذ والسلطة في البلاد ..فاغلبهم قد درس هنا في هذه المدرسة.. التي كانت تعد من اوائل المدارس الاهلية التي انشئت في منتصف سبعينات القرن الماضي..وفتحت أبوابها لتدريس أبناء علية القوم ذوي النفوذ من العسكريين والمدنيين في البلاد .

وتابع(طه)حديثه : هناك الكثيرين ممن أهتم بهم والدك. وراعاهم وحافظ عليهم من التسرب من المدرسة..بحكم وظيفته كحارس للمدرسة هم اليوم رؤساء مؤسسات ومسئولين كبار في الدولة.. وقد التقيت بعضهم في عزاء اختي في رمضان..بل ان البعض ممن كان والدك يحميهم من اعتداء زملائهم عليهم..قد أصبحوا شخصيات سياسية مهمة وقادة لبعض الاحزاب الموالية للسلطة.. او المعارضة لها.

ابتسم (محمد) وقال : احمد الله فقد حضر بعضهم لتعزيتك..في حين لم يحضر آحد على الاطلاق لتقديم التعزية في وفاة والدي (رحمة الله تغشاه)..ولم اشهد يوما في حياتي آحدهم يزور والدي..بل أن بعضهم كان ياتي بسيارته الفاخرة لايصال  اولاده الى المدرسة.. او ياخذهم من المدرسة..دون أن يلقي حتى التحية على والدي..وقد درست مع بعض أبنائهم اثناء دراستي في المرحلة الاعدادية..وكنت أحزن جدا واشعر بالفرق بيني وبينهم..حين كان يطلب مني المدرس القيام بمسح السبورة.. أو أغلاق باب الفصل أو جلب الطباشير من سكرتارية المدرسة.. لكني مع الايام تعودت ولم أعد اشتكي أو أشعر بالتذمر أو الزعل.

أجتهد كثيرا (محمد)في صقل وتنمية موهبته في مجال الرسم..وكل الجداريات على سور المدرسة وجدران الفصول ومن رسمها..فحديث (محمد) فسر ل(طه) كثيرا من الشبه الكبير في ملامح الوجوه المرسومة على الجدران لملامح( محمد) وأخوته وادرك انها تعبر عن قناعات عند الرسام..وبانه لا يختلف عن اولئك الطلاب من أبناء الاغنياء وعلية القوم.

(محمد) ذكر ل(طه) بان المشيعين لجنازة والده لم يتجاوز عددهم عشرين شخص.. اغلبهم اصدقائه منهم(حميد) صاحب عربية البطاط  المسلوق..الذي يبيعه لطلاب المدرسة..والحاج( مسعود) الذي اعتاد ان يبيع حلوى غزل البنات امام المدرسة.. فلم يحضر آحد من المدرسين أو من أدارة المدرسة..ولا آحد ممن ذكرهم له (طه).

الشيئ المحزن جدآ أن العم(عفيف) لم يحضى براتب تقاعدي..رغم الفترة الطويلة التي عمل بها كحارسا للمدرسة..فقد كان يعمل بعقد مؤقت.. تجدده له ادارة المدرسة من وقت لاخر..و (محمد) لم يعد يريد شيئ..فهو يريد فقط  منع تشرد اخوته..من خلال العمل بدلا عن والده..والجلوس على ذلك الكرسي الخشبي المفكك المتهالك الذي نحت وترقق مقعده لكثرة جلوس العم عفيف عليه.

حول الموقع

سام برس