بقلم / سمية الغنوشي
لسنوات طويلة، راج ان الصراع الدائر في العالم الاسلامي في جوهره سني شيعي، وان كل النزاعات التي تجري في المنطقة مردها الاختلاف المذهبي.
 
ساهمت النزعة الثورية الشيعية لإيران منذ ثمانينات القرن الماضي من جهة، والتوجهات السلفية المتشددة التي ترعاها بعض الدول الخليجية من جهة اخرى  في تغذية هذه الرؤية التقابلية، سواء بصورة مباشرة اوغير مباشرة.
 
كما استثمرت قوى كثيرة في لعبة الفرز الطائفي وحرب المساجلات والملاسنات المذهبية، وتم توظيف مشايخ وعلماء ومعممين و عوام مغفلين في هذه الحرب الساخنة والباردة. 
 
دخلت  القوى الشيعية المتطرفة في العراق وسوريا المرتبطة بايران على نحو او اخر على خط الصراع، و انخرطت فيه على الجهة المقابلة القوى السلفية المتشددة ذات الجذور الوهابية، سواءًا تلك التي عرفت بالسلفية العلمية او السلفية العنيفة والمقاتلة.
 
وقد ساهمت القوى الغربية وحليفها الاسرائيلي في دفع الأمور نحو هذا التصنيف بزعم ان خطوط الفرز الرئيسيّة في المنطقة هي بالأساس بين قوى الاعتدال العربي والاسرائيلي  وقوى التشدد الاسلامي التي تمثلها ايران وحلفاؤها. 
 
طبعا، مثل هذا التصنيف الامريكي الاسرائيلي متحرك بحسب لعبة المصالح، فمنذ ثلاثينات القرن الماضي راجت مقولة الارهاب الاسلامي الشيعي واعتبرت ايران والمجموعات الشيعية المرتبطة بها راس الارهاب العالمي.
 
الا انه منذ احداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم مع احتلال العراق،  انقلبت الأمور رأسا على عقب، وبات الحديث يدور عن الارهاب السني  وينظر للمجموعات الشيعية في العراق على انها حليف طبيعي في مواجهة التشدد السني، وطفقت بعض الاقلام الامريكية تروج لما أسمته باليقظة الشيعية. 
 
طبعا، هذه الانقسامات الطائفية التي تشق المنطقة اليوم لا تعود في جوهرها الى الاختلافات المذهبية والكلامية،  فاستدعاء النصوص وميراث التاريخ يجري في سياق منازعات سياسية حادة.  في ظل موجة المد القومي العربي منذ خمسينات القرن الماضي مثلا، اختفت الى حد كبير الانقسامات الطائفية وغلب الشعور المشترك بالانتماء القومي العربي العابر للحدود المذهبية والدينية.  
 
ساهمت السياسة الإيرانية خلال العقدين الاخيرين والمجموعات الشيعية المرتبطة بها في تعذية هذا الانقسام. عقدت طهران تحالفا موضوعيا مع الاحتلال الامريكي في العراق تحت عنوان المظلومية الشيعية.  ثم أقامت نظاما سياسيا طائفيا ضد المكون السني العربي بما أشعره بالتهميش والضيم. وفِي سوريا، دعمت مجموعات شيعية في القتال  الى جانب نظام بشار الأسد، مقابل معارضات مسلحة سنية مدعومة من دول الخليج.
 
كل هذا عمق خط الصراع واججه، وان كان يحسب لإيران موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، مقابل هرولة الدول العربية الكبرى لمد خيوط التحالف السري مع اسرائيل.
 
اما  دول الخليج المفزوعة من طهران منذ اندلاع ثورتها، فقد عملت على إقامة الجدران المذهبية وتهييج الرأي العام الخليجي والمجموعات السلفية ضد ايران، ويبدو ذلك واضحا من خلال السجالات الكلامية التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي حول قضايا تاريخية وثيولوجية لا علاقة لها بالواقع.
 
والحقيقة ان هذا النزاع  في المنطقة يخفي وراءه اجندات قومية وسياسية يوظف فيها الدين والمذهب. خذ المملكة العربية السعودية التي تعتبر نفسها حاملة لواء الاسلام السني مثلاً.
 
اليوم تدير الى جانب الإمارات العربية اكثر المعارك شراسة ضد المكونات السنية، بما في ذلك التيارات الاسلامية، بما يُبين ان معركتها مع الاسلام السني الديمقراطي أشد من تلك التي تخوضها ضد الاسلام الشيعي. 
 
دعونا هنا نقلب سجل الكتاب في المرحلة القريبة والراهنة بعيدا عن صراعات الماضي البعيد.
 
تركيا دولة سنية كانت  تدير ظهرها للعرب والجوار الاسلامي منذ ان تشكلت في عشرينات القرن الماضي، وقد عملت على نسج تحالفات مع اسرائيل والغرب على حساب القضايا العربية، وكانت راس القاطرة فيما عرف بحلف بغداد في مواجهة المد القومي بقيادة عبد الناصر وقتها.
 
الا انها أخذت ترمم علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي تدريجيا، وخصوصا في حقبة الرئيس اردوغان. لكنها مع ذلك قوبلت بسلسلة من المؤمرات والدسائس العربية السنية التي بلغت حد دعم انقلاب عسكري على حكم رئيسها المنتخب.
 
ومازالت الحرب تدور رحاها اليوم ضد تركيا والتوجهات الديمقراطية داخل الاسلام السني التي غدت العدو الاول لدول الخليج، حاملة لواء الاسلام السني.. 
 
السؤال اليوم هو كيف نعيد الأمور الى نصابها الطبيعي، ونغلّب الفرز السياسي الذي يشق السنة والشيعة على السواء على الاعتبار الطائفي المضلل؟
 
الواضح اليوم ان كل أطراف الصراع مأزومة وقلقة.
 
ايران مرهقة بسبب كثرة جبهات الصراع ومستوى الاستهداف الذي تتعرض له.
 
تركيا مستنزفة في حربين على حدودها.
 
اما القوى الاسلامية السنية فتواجه مشاكل جمة، خصوصا بعد الانقلاب في مصر وتشكل محور إقليمي شرس ضدها بقيادة دول سنية.
 
الحقيقة هي ان التمادي في خيار الشحن الطائفي على الجهتين وتصوير الأمور على انها صراع ازلي بين محورين متقابلين هو ضرب من العبث والتقاء موضوعي، بوعي او دون وعي، ضد المصالح العربية والإسلامية الكبرى. 
 
نعم، هناك خلافات سياسية مع ايران خاصة فيما يتعلق بالملفين العراقي والسوري. ولكن تبقى ايران دولة مسلمة مجاورة يجب ان تحل معها القضايات الخلافية بالحوار والتفاهمات السياسية، لا بإقامة الجدران المذهبية العازلة، مع الارتماء في احضان اسرائيل ونسج التحالفات المشبوهة.
 
في مثل هذه الأوضاع المتقلبة التي تمر بها المنطقة، ومع احتدام الصراع الإقليمي والدولي وارتفاع حجم المخاطر، لا مفر من عقد تفاهم تركي- إيراني يمكن ان تنضم اليه الدول العربية التي لم تنجر الى محور الشر الذي تقوده ابوظبي.
 
مثل هذا التقارب من شأنه ان يمثل رافعة للتعاون الاسلامي ويخفف منسوب الاحتقان الطائفي في المنطقة ويعزز المشروع الديمقراطي المجهض بمؤمرات الاسلام السني وحليفه الاسرائيلي. 

نقلاً عن عربي 21

حول الموقع

سام برس