بقلم/ د.محمد عبدالله الحورش
 في يوم عابس , هادئ , حزين , متهالك ...

انا متصلا : دكتور أحسن تعالى بسرعة , أبي تاعبين , أبي خارج الوعي , ......
الدكتور : دقائق وانا عندك..

عمي قحطان بجانبي يراقب ضغط أبي ويراقب كمية الأكسجين من خلال جهاز الكتروني , بعد خمس دقائق  يهمس في أذني : أبني محمد , الأكسجين حق أخي  بيتناقص ,
أنا : الان يا باه أجيب جرة الأكسجين من غرفة النوم , قم ياخالد قحطان , تعال خذ معي الأكسجين ,
أمي : جرة الأكسجين كبيرة وثقيلة جدا ومثبته في مكانها , الأفضل تنقلوا زوجي الى غرفة نومه , الى سريره ,  الى جوار الأكسجين  , انا : اوكي , تعال ياخالد ننقل أبي , وضعنا ابي على السرير ووضعت مسك الأكسجين على الأنف والفم , عمي قحطان مراقبا كمية الأكسجين في جسم والدي , الأكسجين يقل .. يتناقص ,  وقلبي يخفق .. يرجف .. يتهاوى .. أكاد أجن .. ألملم دموعي , أحاول أخفائها , أتظاهر أمام أمي وخواتي بأني قوي , وأن الامور طبيعية , لا اريد أن أسمع غير هذه الكلمتان " الامور طبيعية !! "

بعد لحظات , وصل الدكتور أحسن , فحص أبي في غرفة النوم , بدت علامات وجهه غير طبيعية , ملامحه لا تطمئن , فهو كما يبدوا قد عرف بما حل بأبن عمه , وانا أنشد الحياة لوالدي , لا أريد أن أعرف الحقيقة  ,
انا : طمني ياخي ,
يرد : خليك جنبهم , أسير للمستشفى بسرعة وراجع لك ,
انا : طيب ننقلهم الى المستشفى..

يرد : لا .. شادي لك المستشفى الى هانا ..أصبر .. أهدا ..تماسك .. شويه وارجع لك ,

كانت هذه الثلاث الكلمات كالصاعقة في جسمي , كلمسة كهرباء رعشت جسدي , واقول في نفسي ماذا يقصد , ماذا يريد ان يقول عن أبن عمه ..!
هل يريد ان يقول ان عبدالله الحورش لم يعد قويا , صلبا , مقاوما , صامدا كما عرفناه , ماذا يريد أن يتمتم أحسن الدكتور , يريد ان نقبل بالحقيقة , أم اراد أن يمهد لنا الفاجعة رويدا رويدا  ,  لا عليك يا دكتور سأنتظر , سأصبر سأتماسك , سأهدا , فهذا طلبك , أنت فقط لا تفجعني في والدي , لا ترميني برصاصة الرحمة الاخيرة  , أجبر بخاطري يادكتور فأنا أبن أخوك وولده الوحيد , أرحم وحدتي , وأرحم ضعفي , وأرحم فرقتي برفيق عمري ,  عندما تعود لا تقله رجاء   , لا تقله أبدا ....

في هذه اللحظات بدأت اوزع نظراتي الى أمي التي كانت أكثر تماسكا مني , واكثر ثقة , والى عمي التي كانت تقاسيم وجهه تقول لي أحمد الله واشكره ياولدي , و الى شقيقاتي الذي بدأ عليهن اليتم من تلك اللحظة , عيونهن تشرغن بالدمع , وبشرة جلدهن تغير لونها , والسنتهن توحي الي ان لا تصدق أي شيء ,  وانا احاول اتماسك , وأطمنهن : لا تخافين ان شاء الله خير , أبي سيعيش , أبي لن يتركنا لحالنا , أبي سيكمل رفقتنا في هذه الحياة , .....

الساعة 6:14 صباحا :

أبي يشهق , وتخرج روحه , أبي يودع الحياة , أبي يتركني وحيدا ,
عمي قحطان قائلا : الحمدلله أخي أفتهن , أخي أرتاح , وانا اكابر واقول لعله يقصد ان ابي ارتاح من المرض وتعافى , ولم أكن  اتوقع انه يقول بأن أبي أفتهن من الحياة , وأرتاح من وجع الدنيا ومشاقها ومصاعبها , لازلت أكابر , وأحاول أكذب أفكاري , اتحايل على الحقيقة , أتجاهل الواقع , عندي بصيص أمل , كالغريق المعلق بقشة , لعل الدكتور أحسن يأتيني بخبر مغاير لكل تأويلاتي ومعتقدات عمي , اغالط نفسي ,  سبحان الله , وما ذلك على الله بعزيز , هو يحيي ويميت ...

بعد قليل الدكتور أحسن ومعه دكتور العناية المركزة المناوب الذي أتى به من مستشفى الثورة , يفحص أبي من جديد ويقول لي بعدها : أحمد الله واشكره , هذا حال الدنيا , ماذا عسانا أن نفعل , حسبنا الله ونعم الوكيل , انا لله وانا اليه راجعون..

بهذه الجملة فقت من صدمتي ووقفت على حيلي وعرفت أنني أمام أمر واقع , وأمام مسؤولية كبيرة , وأمام أمانة ثقيلة حملني أياه أبي : " أمي , خواتي , زوجتي , أبني معاذ " ...

في مثل هذا اليوم وفي فجر ال ٦ سبتمبر ٢٠١٦ م وبعد معاناة شديدة و طويلة مع المرض صعدت روح أبي الى بارئها وقد أنهكها المرض , وأعياها التعب , وأسهرها الألم , ولكنها مطمئنة  , راضية , مرضية , وستدخل بإذن الله في عباده وفي جنته.

مات أبي وهو في بيته في غرفته في سريره مستقبلا قبلة ربه , كما كان يتمنى , وكما كان يدعوا الله به , سافر لتلقي العلاج عدة مرات , وأدخل المستشفى  عشرات المرأت , وخضع لعدد من العمليات , الا ان المولى استجاب لدعائه , واماته بين اولاده ووسط أهله ومحبيه وعلى فراشه ,

أصيب بالسكر في عز شبابه نهاية الثمانينات , وتعرض لعدة جلطات قلبية في اواخر التسعينات , وخضع لعملية قلب مفتوح في 2007 م , وغيرت له ثلاثة شرائيين بقلبه , أصيب بمرض القدم السكري أواخر العام 2012 م , وتم زرع شبكة "دعامات" لشرائيين رجله اليمنى 2013 م , بعدها بأسابيع تم بتر رجله اليمنى في احدى مستشفيات الأردن في الليالي العشر بشهر رمضان  , وفي بداية العام 2015 م تعرضت رجله اليسرى لجلطة واصيبت كما الاولى بمرض القدم السكري , ونتيجة العدوان والحصار المطبق على الشعب اليمني واغلاق المطارات لم يستطيع السفر الى الخارج , فخضع للعلاج في اليمن وفي اكثر من مستشفى , انتهى به المطاف الى بتر قدم الرجل اليسرى في بداية العام 2016 م , وأستمرت مجارحته ومعالجته لمدة سنة ونصف مترددا على المستشفيات وبشكل شبه يومي حتى وافاه الأجل , حامدا , شاكرا , صابرا , راضيا , محتسبا ,  مبتسما , كان أغلب دعائه : " يارب ان لم يكن بك علي غضبا فلا أبالي , ان لم يكن بك علي غضبا فلا أبالي"

رحل الطيب الخلوق , ذو القلب الرحيم , الرجل القوي الشجاع , رحل صاحب الابتسامة التي لا تفارق وجهه , رحل من علمنا ماهو الصبر وماهي اوقاته , رحل من علمنا كيف نتعامل مع البلأ , وكيف نتعايش مع الألم والوجع ,

رحل مدرسة الحياة , الزاهد في دينه , المتحرر من دنياه , الحر في منهجه , الثابت على مبدأه , الصريح في قوله ,
رحل الرجل العسكري , والقائد القوي , والسياسي الذكي , الأنيق الوسيم , رحل فخري وأفتخاري ,  رحل كارزما آل الحورش .. رحل أبي .. رحل أبي ..

مرت سنة وانا أعيش بدون روح , مرت سنة وعقلي لم يصدق ما حدث , مرت سنة وها انا أنتظر عودة أبي ليصافحني , ليدعوا لي بأن يوفقني الله على مناقشة اطروحة الدكتوراة , ليحتضنني , ليبارك لي لحصولي على درجة الدكتوراة , مرت سنة وانا اغالط نفسي , واحاول اتناسى وجعي , ولكن تأبى الاقدار ان تفارقني , فكيف وأبي يعيش معي كل لحظات حياتي , نومي , صلاتي , دعائي , صومي , طريقي , سفري , دراستي , أكلي , شربي , علاجي , هذا أبي , هذا أبي , هذا أبي  , فكيف أنساه وهو أبي ......

رحماك ربي بأبي , فقد صبر على البلأ , وحمد وثناء , وشكر و رضا , ولا نزكي على الله احدا ,

عمان - الاردن
٦ / ٩ / ٢٠١٧ م

حول الموقع

سام برس