عباس الديلمي
لا أتطرق لهذا الموضوع، من باب التنكيت أو التندر كما قد يتبادر إلى البعض- فما دفعني إلى هذا هي الجدية والحرص كل الحرص على شعب ووطن، وتوقعي لاحتمالات سيئة خطيرة الإفراز إن نحن أهملنا مالا يجب إهماله أو الاستهانة به، وهي الصحة النفسية لكل من تعرض لما أصاب صحته النفسية.. وألحق بها الاختلال في التوازن.. كون مخاطر ذلك -بدون مبالغة- تفوق مخاطر الصراع المسلح ودماره المادي، وما لحق بالاقتصاد والبُنى التحتية من أضرار.
إن اختلال الصحة النفسية للمجتمع، فيه من المخاطر ما يفوق سلبيات وعواقب أي محنة تتعرض لها المجتمعات؛ كونها مفتاح كل بلية وأولها فقدان التوازن الذي يبتدئ بالتطرف مروراً بالتهور.. الذي يقود إلى فقدان قيم وضوابط وكوابح الأخلاق والتعاليم الدينية.
إن اعتدال الصحة النفسية المجتمعية -كاعتلالها عند الأفراد- تبتدئ بالوقوع تحت تأثير الظروف الصعبة والقاسية.. ويأخذ العقل دوره في الانحسار إلى أن تتلاشى الآدمية، ليس بالمفهوم الذي ورد في تصريح للأستاذ محمد اليدومي -الأمين العام لحزب الإصلاح- وهو يصف ثورة سبتمبر بأنها كانت ثورة إنسانية بامتياز وقد أعادت للمواطن اليمني آدميته! وكأن الشعب اليمني فقد آدميته؟! بل بمفهوم تعرض المصابين باعتلال الصحة النفسية لمخاطر تلاشي ما تم توارثه واكتسابه من قيم وأخلاقيات إنسانية.
نعم.. هذا ما يحدث وما نقصده، وندلل عليه ببعض الشواهد أو بشيء مما أصاب الصحة النفسية عند البعض نتيجة ظروف صعبة وقاسية مرّت بها بلادنا -ولازالت- تجر ذيولها وتلحق الأذى بمن تتمكن من الفتك به، من هذه الشواهد أن نجد البعض يُلقي بأطفاله من الدور الخامس في العمارة التي يسكنها ثم يلحق بهم!! من يقوم بقتل شقيقاته وزوجة أبيه بسلاح ناري ثم يلحق بهن!! من يقوم مع اثنين من أبنائه بقتل ثالثهم بطريقة بشعة ويتسللون ليلاً لإخفائه في إحدى المقابر!! من يقوم بقتل ابنته الطفلة تعذيباً بشعاً وبنفس الطريقة وبتجرد من الإنسانية، يقدم على تعذيب ابنته الثانية (الطفلة) لتلحق بأختها!! أن تقوم شابة ريفية بقتل نفسها شنقاً، وتقتل نفسها ريفية أخرى بسلاح ناري، وأن يشهد الريف اليمني في أكثر من محافظة جرائم وتصرفات مماثلة، علماً أن الريف يُعرف بمن هم أكثر صبراً وتحملاً على قسوة الأهل وصعوبة الحياة بدافع إيماني قوي..
ويصل الأمر إلى تهامة اليمن -من منحونا ناصفة الأرق قلوباً والألين أفئدة- فنسمع عما يدعو إلى القلق والمخاوف، كأن نسمع عن من قام بذبح طفلة في السابعة من عمرها بمنجل (شريم) لحش الحشائش وليس الرقاب!! وعن شابة تلتقط بندقية آلية من إحدى جدران منزل والدها وتطلق النار مع سبق الإصرار على شابين وتردي أحدهما قتيلاً بحجّة أنهم عاكسوها من خارج المنزل، وكأنه لا أهل لها تشكوهما إليهم، أو شرطة آداب يتم إبلاغها بتصرف مراهقة شبابية!! وأن يقوم طالب بالتقاط بندقية والده ويتجه لقتل عامل سمكرة بجانب منزلهم بحجّة أنه يزعجه ويعكر عليه صفو أجواء المذاكرة!!
أمثلة وشواهد كثيرة جداً -تمتلئ بها صفحات الجرائد يومياً- عاكسة ما يحدث في جميع المحافظات والمناطق الريفية، بما فيها تلك التي كانت تعتبر أنموذجاً للسكينة والتحضر والسلام الاجتماعي، كمحافظات إب، تعز، الحديدة، أمانة العاصمة.. إلخ، وكذلك الحوادث المرورية التي تفوق ضحاياها أي حرب مع جيش معادٍ.
والإجابة المختصرة على من يسأل: ما الذي حدث، وما الأسباب؟! نقول: إنها وطأة الظروف الصعبة والقاسية التي تمر بها البلاد منذ سنوات ثلاث، شهدت من حروب الشوارع، والقرى، ومن فقدان الأعمال، ومصادر الدخل، والاختطافات والتقطعات والإقالات والاستغناء، وذبح الضحايا المحتجزين وظلام الليالي الطوال.. والقتل الجماعي -خاصة للعسكريين- وغيرها من الأعمال الكفيلة بإحداث صدمة غير هينة بالصحة النفسية وخاصة لدى الأكثر فقراً وتضرراً، واستهتاراً بحق الآخرين وبحق نفسه عليه، في ظل نعاسٍ يداعبُ أجفان الدولة ووهن يدب في هيبتها وتواجدها الحازم بعوامل الردع المطلوبة.. ولا ننسى هنا الإشارة إلى مثال لبوادر مستحدث في منتهى الخطورة، هو التفجير المزدوج الذي شهده الأسبوع قبل الماضي شارع الرباط بالعاصمة صنعاء وقت الذروة لتواجد الناس أو المارة الذين كان معظمهم من الأطفال والعمال.. حيث تبع الانفجار الأول الذي أدى إلى تجمع الناس وأصحاب المحلات ليعقبه الانفجار الثاني بغرض قتل وإصابة أكبر عدد من الناس -بهدف القتل فقط- أي أن العمل لم يكن تنفيذاً لمخطط إجرامي إرهابي أو سياسي، ولكن بدافع مراهقة صبيانية ناتجة عن اختلال المشار إليه ، أعتقد أن رجال الأمن والتحري قد وقفوا أمام خلفياتها ودوافعها.
إذا ما تساءلنا قائلين: ما العمل وما المطلوب؟! فإن الإجابة باختصار تدعو إلى عدم التساهل، وضرورة الوقوف بجدية أمام ما لحق بالصحة النفسية من اختلال وأن ندعو كل من وقف معنا من أصدقاء وأشقاء لإخراج اليمن من منزلق خطير وتجنيبه مالا تحمد عواقبه، عبر المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومؤتمر الحوار، وكل ما أسهمت به الدول العشر في هذا المجال، لإتْبَاع نتائج الحوار وقراراته، بالخطوة التي لابد منها وهي حماية المجتمع والدولة في اليمن من مخاطر اختلال الصحة النفسية الناتجة عن الحروب والاقتتال والأزمات والمعاناة وذيولها المتلاحقة.. كون من يقعون عرضة لاختلال الصحة النفسية هم البؤرة والحاضنة المولّدة للتهور والعنف والإرهاب، واستمراء القتل -للقتل فقط- بالانفجارات المزدوجة وقطع الرؤوس وقطع الأعناق وما لحق بالدولة والمجتمع من مصائب سياسية وإرهابية واجتماعية واقتصادية.. إلخ.
بدون الوقفة الجادة أمام مخاطر اختلال الصحة النفسية، وبما هو علمي ومنهجي وبدون مساعدة من أشرنا إليهم بالمال والخبرات والبرامج العلمية.. للسيطرة على ذيول حروبنا المتلاحقة في صعدة وشوارع وأحياء المدن، والاصطياد الجماعي والفردي للعسكريين، ونتائج الأزمات والمحبطات، بدون ذلك، لا نتيجة مُرضية لحوار حُصر على معالجة ماهو سياسي توافقي.. وكأننا ما تحاورنا، بل انطبق علينا قول المشير السلال، عندما ما جاءته امرأة تطالبه بعلاج ابنها المجنون.. فقال لها المشير رحمه الله: لقد أزعجتني من أجل ابنك المجنون، فمن يعالج لي خمسة ملايين مجنون!
شيء من الشعر:
جئتكم من سبأ
بيقين النبأ
فجَّروا ناقِل الغاز والنفط
شنّوا هجوماً جديداً
أغَاروا على الكهربا

حول الموقع

سام برس