بقلم/ الحبيب علي الجفري

الحمد لله

وقفت على مقالة للكاتب المعروف الأستاذ مشعل السديري، وفقه الله، بعنوان "عقولنا ليست عقول عصافير" اشتملت على مقدمتين وملاحظتين مختلفتين بينهما مشترك.

وليسمح لي أخي الأستاذ مشعل بأن أوجه له المقدمتين بالمثل من البوح بالاحترام والتقدير لشخصه الكريم وبالإعجاب ببعض ما يسطره قلمه، على أنَّ ذلك بالطبع لا يعني العصمة من الخطأ.

وأما الملاحظتان فإحداهما عقلية والأخرى ذوقية، والقاسم المشترك بينهما أنّ كونه مُسلمًا لا يجعله مُلزَمًا بقَبول ما لم يتقبله منهما بحيث يضر رفضه لهما بدينه لأنهما متعلقتان بخبر عن غير معصوم.

فالأُولى: عدم تقبله لكرامتين منسوبتين لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تتعلقان بخطابه للنيل كي يفيض، وخطابه لسيدنا سارية الهُذَلِي رضي الله عنه وهو في بلاد أخرى.

ووجه عدم الإلزام هنا متعلق بالخبر عن غير المعصوم وكونه ليس قطعيًا؛ فعدم تصديقه به لا يضره، على أنّ أصل ثبوت الكرامة للصالحين وخرق العادات لهم ثابت في الكتاب والسنة وهو مؤيَّد بالعقل.

أما الكتاب فقوله تعالى لسيدتنا العذراء مريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.

وأي قدرة لبشرٍ يستطيع بها هز جذع نخلة ليُسقط منها الرطب؟! والأستاذ مشعل من بلاد حباها الله بالنخل فهو يعرف ذلك جيدًا، فكيف إذا كان من يُطلب منه ذلك امرأة نفساء حديثة عهد بالولادة، وإذا أخذنا بالاعتبار تاريخ الميلاد الذي يحتفل به المسيحيون فسيجد أمامه خرقًا آخر للعادة إذ إنّ النخل لا يثمر في الشتاء.

وأما السُنّة فحديث جُريج الراهب الذي اتهمه قومه بالزنا وإنجاب طفل غير شرعي فأشار إلى الطفل الرضيع وسأله عن أبيه فأنطقه القدير جلَّ جلاله ليخبر بالحقيقة، والحديث ثابت في البخاري ومسلم ومسند أحمد.

ومن جهة الدليل العقلي فإنَّ من سَنّ القوانين الطبيعية له سبحانه القدرة على خرقها لمن شاء من عباده.

والاستشهاد بقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا} للاستدلال به على أنّ خوارق العادات منافية للبشرية فمردود بتعلّق السياق هنا بمطالب اشترطها الكفار فيها ما لا يتناسب مع البشرية كقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}.

ولم يكن إذنُ الله لسيدنا المسيح عليه السلام بإحياء الموتى ناقضًا لبشريته، قال تعالى على لسان السيد المسيح: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

والملاحظة الثانية، وهي الملاحظة الذوقية، فمتعلقة بما سمعتُه من الشاعر الراحل أحمد شفيق كامل رحمه الله عن كونه نظَمَ رائعتيه "أنت عمري" و"أمل حياتي" مدحةً في الجناب النبوي الشريف ﷺ.

ومع تحفظٍ لا يخل باحترام الكاتب على كلمة "يسرح بك" التي أشار بها إلى الشاعر فإنه رحمه الله لم يكن في حاجة إلى ذلك لا سيما وهو في آخر عمره واللقاء في مسجد، غير أنَّ رؤية الأستاذ مشعل بعض كلمات القصيدتين غير لائقة بمخاطبة المقام النبوي السامي أمر شديد النسبية يخضع إلى ذوقه الخاص كما يخضع إلى ثقافته وتعبير بيئته لمفهوم الحب والشوق والحنان واحتضان القلب، من حيث ملائمة ذلك للمعاني السامية أو اقتصاره على العلاقات الجسدية الغرائزية.

وهو أمر مباين لبيئة الشاعر وثقافته ونظرته، وكما تقول العرب "المعنى في بطن الشاعر".

وأما تعبير أهل التعلق والتعشق للجمال المحمدي عن مكنون أشواقهم فهو متصل بسمو ذلك عن الغرائز الجسدية.

وأورد هنا مثالين من قصيدتين للإمامين الجليلين محمد شرف الدين البوصيري وسلطان العاشقين ابن الفارض وكلاهما من مصر المحروسة بلد الشاعر:

يقول البوصيري في بُردته:

لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعاً عَلَى طَلَلٍ ولا أَرِقتَ لذكرِ البانِ والعلَمِ
فكيفَ تُنْكِرُ حُبَّا بعدَ ما شَهِدَتْ بهِ عليكَ عدولُ الدَّمْعِ والسَّقَم

وَأثْبَتَ الوجْدُ خَطَّيْ عَبْرَة ٍ وضَنًى مِثْلَ البَهارِ عَلَى خَدَّيْكَ والعَنَمِ
نعمْ سرى طيفُ من أهوى فأرّقني والحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذاتِ بالأَلَمِ
يا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَة ً منِّي إليكَ ولو أنصفتَ لم تلُمِ

ويقول "سلطان العاشقين" ابن الفارض في قصيدته التي مطلعها:

قلبي يُحدثني بأنك مُتلفي روحي فداكَ عرفتَ أم لم تعرفِ
أخفَيتُ حُبّكُمُ فأخفاني أسىً حتى لعَمري كِدْتُ عني أختفي

وكتمْتُهُ عنّي فلو أبدَيْتُهُ لوَجَدْتُهُ أخفى منَ اللُّطْف الخَفي
ولقد أَقولُ لِمَنْ تحَرّشَ بالهوى عرّضْتَ نفسَكَ للبَلاءْ فاستهدفِ

أنتَ القَتِيْلُ بأيّ مَنْ أحبَبْتَهُ فاختر لنَفْسِكَ في الهوى من تصطفي
قُلْ للعذولِ أطلْتَ لومي طامعًا إنَّ الملامَ عن الهوى مُستوقِفي
دَعْ عنكَ تَعنيفي وذُقْ طعم الهَوَى فإذا عشِقْتَ فبعدَ ذلكَ عَنّف

والخلاصة أنَّ الاختلاف هنا لا يفسد للود قضية فهو اختلاف مشروع واللوم عنه منزوع ما دام كل طرف يُكن الاحترام للآخر ويعترف بحقه في أن يكون مختلفًا عنه في ذائقة أو تعبير أو تفكير.

وهنا يكمن سبب كتابة هذه الأسطر، إذ إنَّ كثيرًا مما نعانيه وتعانيه منطقتنا بل وثقافة العصر المأزوم هو غياب تقبّل التنوع والاختلاف حتى عند دُعاته وأدعيائه فيما يُسمى بالعالم الحر أو العالم المتحضر الذي ينطق بعبارة: "من ليس معنا فهو ضدنا".

فمرحبًا بنقد الأستاذ مشعل السديري، ومرحبًا به، وله فائق الاحترام والسلام.

من صفحة الشيخ علي الجفري بالفيسبوك

حول الموقع

سام برس