بقلم / جميل مفرح
حين تتذكرك فقط، يدبُّ نبضها متثاقلاً يتثاءب، وتجري الذكريات في شوارعها جذلانةً كطفلةـ تفر من ضفيرتيها، ويومض الاشتياقُ إليك فارداً جناحيه، يتلمس ظلك في الجدران وصوتك في المآذن وبقايا من رائحتك في الأرصفة..

صديقي الذي تأبط الوداع وأعطاني ظهره.. كان أنيقاً ومرتباً وذكياً وشاعراً أيضاً كان..
البارحة.. من أعالي زهرةٍ ظمآنةـ
تدحرج صديقي كقطرة ندى مرتجفةـ ووحيدة، تدحرج من أعالي الزهرة..
لا بد أنه أراد أن يقضي ليلته مع الجذور اليابسة.. ربما أو...، أو...،
أو أن هناك خطأ ما...!!

صديقي من طينٍ نادرٍ جداً، بل من ضوء لا يتكرر.. انسكب ذات ظاهرةـ كونيةـ فكااااان...، وكانت مدينته
و....، كنت أنا صديقه?..

صديقي لم يكن يعرف أن هناك من ناول الأقدار سكاكين وطلب منه المرور من أمامها متباهياً بآخر قصيدةٍ كتبها..
لم يكن يعرف أن وراء الباب الذي قرر أن يجرب عبوره مصيدةً اسمها الغياب..
ولم يكن يتخيل أن الخذلان سيصيب أبواب ونوافذ البيوت العتيقة فتنسى
أن تحرس المدينة الصغيرة من كل هذا الحزن.. الحزن الذي يصم آذانها الآن..

كان صديقي يخلط الغيم والضباب
في قصيدة واحدة.. ويوزع عناياته ومقاطعه الشعرية على المارة من أمام منزله.. كان يصنع من خليطه النادر
ضمادات ومعاطف وألفةً.. يتقاسم مع أصدقائه سكر الضحك وياخذ أكثر مما يستحق من البكاء..

كان يوزع نفسه على أصدقائه فلا يعود بأكثر من نصيبه.. وأحيانا يعود بأقل من ذلك بكثير.. كان يلف لحظاته وأغصانا من ملامحه المخضرة بالحب والألفة ويضعها باقات في مجالس مقيله.. كان مقيله الصغير مجسما أنيقاً ومتقناً لمدينته الوادعةً..
...، وكان صديقي خلاصة موجزةً
لكل ما لم تعد عليه المدينة..

يااااا للسكون المزعج.!!
ويااااا للضجيج الصامت..!!
وياااالها من مدينة باتت تذرف كل هذا الحنين وكل هذا الحزن الذي يكاد يقوض الذاكرة على أول من وضع حجراً فيها..

ويااااالي من أناني وأنا أشعر أن ليس من حق أحد سواي أن يفتقده ويبكيه وأن يربت على ظهر المدينة المفزوعة..!!

وياااااالها الأقدار من مجحفةٍ حين تسلب من الأماكن حواسها، فتحولها إلى ما يشبه العلب الفارغة والصدئة..!!

ياصديقي الذي ((يشبهني تماماً..)
فلنقتسم الأدوار والأماكن ما دمت قد تجرأت وبادرت بالاختيار.. أنت تنام مستيقظاً وتهيؤ وتحرس مكاني هنااااااك.. وأنا أشرد في الغيبوبة الفاصلة بيننا.. كل صباح أقاسم المدينة فنجان القهوة وقصيدة من قصائدك.. وفي المساء أضع قميصك على وجهها لتطمئن..

يا صديقي.. توشك اللغة أن تجأر في وجهي، وأنا أرغمها علي أن تضع الحياة وراء ظهرها والغد في سلة مهملاتها وأن تكتفي بالحزن عليك فقط هنداماً ومظهراً، وألا تكون شيئاً غير ما أريد أن أقوله وأكتبه عنك..
ومع ذلك لا أريدك أن تهتم بشيء من كل هذا.. فقط أريد منك أن تلتقط هاتفك وتبحث في قوائمك عن اسمي وتضغط على اتصال.. أو... أو...
هل تعلم أن غداً الجمعة..؟!
وهل عندكم جمعة كالتي عندنا..؟!
حسنا سأنتظر أن ترسل لي رسالة واحدة فقط تهنئني فيها بالجمعة كما كنا نفعل.. رسالة واحدة وإن جافة مصطنعة لا دفء ولا محبة ولا شعر فيها كما يتقن الآخرون...

عبدالمجيب.. أنا الآن أجلس أمام حقيبة ذكرياتي معك مفتوحة، أنبشها وأقلب ما فيها من تذكارات وكركرات، هدايا وابتسامات، مواقف وطرائف وحكايات وألبومات صور ودفاتر شعر وقوائم أصدقاء أيضاً..

يااااااه يا صديقي الحبيب كم أفتقدك.. وكم هي خائنة هذه الحقيبة..!!
اكتشفت ذلك وأنا أحاول أن أعيد ما نبشته من داخلها من ذكريات فلا تتسع..!!

الذكريات اللحظة تتناثر، تتكاثر، تغدو ركاماً هائلا لا يمكن لحقيبة أو حتى مدينة كمدينتك الصغيرة هذه أن تتسعه.. ولا يمكنني من جهتي أن أتوقف وأتنهد وأحزن وأغالب حسرتي عند كل شاردة وواردة تحمل ذكراك...

صديقي.. هل تتذكر..؟
كتب كل منا بل كان وما يزال كل منا يحاول أن يكتب مرثاته بنفسه.. جربنا ذلك كثيرا وما نزال نجربه.. وكنا كثيرا ما نقول بأنه من العار أن يظل شاعر ينتظر من يتكرم بكتابة مرثاة..
لذلك أرجوك ألا تنتظر مني مرثاة أو تعتبر هذه الهلوسة شيئا من ذلك... و... و...
هل أصدقك القول..؟!
ما أزال لا أستطيع أن أتخيل فقدانك فكيف لي أن أرثيك...؟!

...، تعلم يا صديقي جيدا أنني أحبك وأفتقدك.. أليس كذلك..؟
أنا أيضاً أعلم جيداً أين أستقر وأكون من محبتك..
إذن ابتسم وانتظرني في مكان مناسب يليق بضحكاتنا وبفرحة لقائنا وبصفقات كفوفنا وكتفينا ونحن نتصافح ونتعانق.. ابتسم هناااااك نيابة عني وسأحاول من جهتي أن أبتسم هنا نيابة عني أيضا لأن حزني عليك أكبر من أن يجبر أو تطوح به ابتسامة واحدة..
ابتسم يا صديقي الحبيب فليس هناك ما يستدعي التجهم أكثر من فقدانك ولا الخوف أكثر من عدم رؤيتك مجدداً..

صديقي.. يكفي..
لم يعد ثمة متسع.. لا في اللغة ولا في الكتابة ولا الشعر ولا في هذيان المحموم الذي أقترفه الآن بلذة أمام حقائب ومدن ذكرياتنا المشتركة..

حسناً.. سأستكمل هذا الهذيان ربما في وقت لاحق .. لا أدري متى ولا إلى متى ولكن أغلب ظني أنه سيكون إلى اللقاء....


حول الموقع

سام برس