بقلم الشيخ/ عبد الغني العمري الح
خاتمة

لقد تناولنا ما يتعلق بالعقل العربي، من غير أن ندخل في التفاصيل الدقيقة، ليخرج القارئ بصورة مكتملة عنه؛ تمكنه من النظر فيما يهمه شخصيا، أو يهم جماعته. ونحن نعلم أن محاولة التخلص من الآفات المتعددة المكتنفة للعقل، ليست أمرا نظريا يبدل فيه المرء موقعه بين ليلة وضحاها؛ ولكنه شيء يشمل جميع وجوه الشخصية، والتي منها الجانب النفسي الوجداني، الذي لا يخضع لمنطق العقل دائما، كما هو معلوم.

والحقيقة هي أن التربية بالمعنى المقصود لدينا، هي وحدها التي تمكّن من معالجة الانحرافات، التي استغرقت قرونا، لتستقر في الوجدان العام. وهذه التربية، ليست مما اعتاده أصحاب العقل المجرد، من تلقين أو إكراه؛ وإنما هي عودة إلى رب العقل، ليعيده بقدرته سبحانه، إلى الاستقامة التي فُطر عليها. ووسيلة هذه التربية، ليست تدينا سطحيا، كالذي يعرضه الفقهاء، والذين نراهم من أهم أسباب الانحراف فيه؛ ولكن هي النور المستمد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم (العقل الأكمل)، لينتشل من شاء الله له النجاة، من كل ما يحرف الإدراك، ويهوي به إلى الحضيض.

إن الناس يعتقدون أن العقل ميزان لا يختل، وكأنه مفارق لهم بحقيقته؛ والحقيقة هي أن هذا الميزان، قد يعرض له ما يجعل إدراكه محرفا أو معكوسا؛ بحيث يرى صاحبه الخير شرا والشر خيرا، والنجاة هلاكا والهلاك نجاة. وقد نبه الله إلى ذلك، في مثل قوله سبحانه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212]. فعقل الكافر لا يرى حقيقة الدنيا، لأن عقله يعطيه أنها الأولى بالاعتناء. وهذا بفعل التزيين الذي يأتيه من الغيب، من دون أن يعلم أسبابه ولا تبعاته. وهذا ينبغي أن يجعل العبد يشك فيما يمليه عليه عقله، لو كان يعلم. لكن حال جل الناس، على عكس المطلوب، فهم يشكّون في كل أحد، إلا في عقولهم. والحقيقة هي أن العبد ينبغي له أن يتوكل على الله، لا على عقله. ولو أن الناس نظروا حولهم، واعتبروا من أحوال من يعرفون، لوجدوا كل من هلك، فإنما هلك لوثوقه بحكم نفسه (العقل). وأما المتوكلون على الله، فإن الله يهديهم إلى ما فيه خيرهم، وإن كانت الأمور من حيث الظاهر، تبدو على خلاف ما هي عليه. ولقد ذكر الله جهل العقل، وعدم قدرته على الحكم على الأمور، في مثل قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. فحب الشيء وكرهه، قد يأتيان من حكم العقل، إما عن طريق الاستدلال، أو عن طريق التوجيه الغيبي؛ وفي الحالين، لا يتمكن المرء من تبيّن طريقه والوثوق منه. والخلاص، هو في العودة إلى الله، الذي يعلم الأشياء على ما هي عليه سبحانه.

وهذا الذي ذكرناه، يجعلنا نتنبه إلى الجهل الذي تنتجه العقول، وتقدمه على أنه علم. ولو محصنا العلوم التي تدخل في النظريات (من النظر) والتفسيرات، لوجدنا شطرا غير يسير منها، هو مما لا أساس له من الصحة؛ وإنما هو توهمات طغت على عقول أصحابها، إلى الحد الذي صارت تبدو في أعينهم حقيقة لا تقبل الشك. والغريب، هو أن جل العقول عندما تطمئن إلى حكم ما، فإنها تدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة حجة وبرهان؛ بل إنها تصبح متحدة به، كأنها هي الموضوعة محل الشك بدله. وهذا التماهي، هو مما لا يكاد العوام ينفلتون منه، لقلة معرفتهم بطريقة عمل عقولهم.

إن توهم الناس أن عقولهم تصدُقهم في كل ما يعرضونه عليها، هو ما يجعلهم يقعون في حبال الهوى الملتوية، والتي لا يتبيّنها إلا من كان من أهل النور. والعقل عندما يغش صاحبه، فإنه يأتيه بحجج ملفقة، تنطلي عليه، فيعتبر أن الأمر معها محسوم لا يقبل المراجعة. وقد يكون هذا التلبيس من إبليس، الذي يعلم من أين يدخل على العقول، ليوصلها إلى حيث يريد. وقول الله تعالى عن اللعين: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، لا يقتصر على رؤية الأبدان وحدها؛ وإنما يتعداها لرؤية طرق الاستدلال والبرهنة. وما أكثر ما أضل إبليس أناسا من كبار المفكرين وكبار أصحاب العقائد. ثم إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» [1]، يدل على أن تصرف الشيطان في الإنسان، لا يسلم منه عضو من أعضائه، ولا قوة من قواه، إلا أن يعصم الله. ولا منجي للعبد من الشيطان ومن شرور النفس إلا ما نصح الله به في كتابه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. وليست الاستعاذة، الألفاظ المعلومة منها؛ ولكنها صدق الالتجاء إلى الله، قبل النطق بها. وهذا يحصل بالتربية التي دللنا عليها سابقا، لا بالتنظير الأجوف، الذي ما عادت شعوبنا تعرف غيره.

لو تمكن الناس من التفريق بين ما هو علم حقيقةً، وما هو جهل، لكفاهم هذا جل الشرور التي تدخل عليهم؛ خصوصا في زمن كزماننا، نطق فيه الرويبضة، وتقدم السفهاء. وهذا الأمر يختلط فيه الفردي بالجمعي، إلى درجة تكاد تبلغ التطابق. هذا، لنعلم أن الفرد لا يمكن أن يبلغ النجاة التامة لوحده، مهما حرص على ذلك وبالغ في التحصن. وإن فيما ذكره الله من قصص الأمم الأولى، ما يوضح ما نذكره هنا، إن رُزق العبد فهما عن ربه في كتابه.

وإن عرفنا مكانة العقل، وعرفنا حدوده، فإننا سنخرج من هذا الخلط الذي نعيشه في زماننا، والذي يزعم فيه كل ناطق أنه عن العقل يصدر. إن أغلب من نسمعهم يتكلمون في الشؤون العامة، لا يتعدون العقول المعاشية في المرتبة. وهم مصرون على تعليم غيرهم الخير، بحسب دعواهم، من غير أن يتريثوا لينظروا إلى أين هم ذاهبون. وحتى الذين نسمعهم يُعلون من قدر الفلسفة ويدعون إليها، لا يبلغون أن يكونوا من أهلها؛ بل هم يوهمون بأنهم مفكرون، لعلهم يظفرون ببعض التقدير فحسب. والفلسفة نفسها، التي هي من الفلاسفة الأحقاق، لا تتمكن أن تخرج بالإنسان مما هو فيه من أزمات خانقة، لا تقبل التأجيل. إن بعض الفلاسفة أنفسهم، قد أقروا بوصول الفلسفة إلى غايتها، من دون أن تُجدي الإنسانية (بعمومها) شيئا يُذكر. ومع ذلك، فإن فئة من بني قومنا، ما زالت متخلفة عن الركب كالعادة، تدعو إلى الفلسفة، وهي لا تعلم منها مصدرا ولا موردا.

إن الأمة العربية، ليس لها اليوم -كشأنها بالأمس- إلا الدين، ليخرجها من الضلال إلى الهدى، ومن الذل والهوان إلى العزة والرفعة. نعم، ليس الدين ما هو معلوم عند الناس بالضرورة؛ ولكنه ذلك المطمور تحت الرواسب الانحرافية، العلمية والنفسية والاجتماعية والسياسية. وإن في كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التي صارت حكمة سائرة: "إِنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلامِ، فَلَنْ نَبْتَغِي الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ"[2]، ما ينبغي أن يكون نبراسا نهتدي به في ظلمات آخر الزمان. وإن قول الإمام مالك رضي الله عنه: "لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها"، لَيؤكد ما نذهب إليه. غير أنه لا بد أن نبيّن أن التدين في آخر الزمان، ينبغي أن يستوعب المستجدات كلها؛ حتى لا يجد الناس مشقة في الجمع بينه وبين مواكبة طريقة عيش العصر الذي نحن فيه. وهذا يستدعي التجديد، الذي ينبغي أن يقوم عليه الربانيون، لا الحمقى الذين يرومون إلغاء الحاضر، في تمسك جاهل بماض، لا يعلمون منه إلا بعض المعالم...
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه؛ والحمد لله رب العالمين.


[1] . متفق عليه، عن صفية رضي الله عنها.
[2] . أخرجه الحاكم في المستدرك.

حول الموقع

سام برس