سام برس/ تونس / شمس الدين العوني
الفنان يستعيد علبة تلوين ليسرد علينا بالرسم و اللون شيئا من طفولة مفتوحة وحالمة..

" فضاءات طفولتي " ...هكذا حدث الفنان و هو الطفل الماثل قبالة مرآة الوقت يفعل به الزمن ما يشي بالحلم و المدينة الحالة لديه علبة تلوين.. نعم هي فكرة الفن تبتكر عوالمها من طفولة باذخة..هناك و من أحياء تونس العتيقة بتفاصيلها و ضجيجها الجميل و حكاياتها و عبث الأطفال في أزقتها و هم يمرحون..من حي باب الجزيرة و بنهج السبخة العتيق تحديدا كانت الحكايات الأولى الطالعة من نعاس الوقت و هو ينسج الشخصية و الوجدانيات..

و هنا كانت الألوان و الرسم و التلوين بوادر حلم مفتوح على الدهشة التي لا تضاهى..هي السحر المبثوث بعد ذلك في جغرافيا القماشة..المسيرة و السيرة و المعارض في جهات تونس و خارجها بين الفردي و الجماعي...المدينة باحت للشاعر الفنان بأسرارها الشتى لتمنحه مفاتيحها تحت شمس وارفة الظلال...معارض متعددة و مسيرة فنية حافلة و مشاركات خارج تونس بعواصم أوروبية و غيرها..هكذا بدت لوحات الفنان الأمهر الذي يستعيد فضاءات طفولته في هذا المعرض و هو في ذلك يسرد علينا بالرسم و اللون و التخييل شيئا من طفولته المفتوحة على الأكوان ليمضي مع النشيد لا يلوي على غير التحليق عاليا و بعيدا و التحديق و النظر تجاه العناصر و التفاصيل و الأشياء و الحالات مبديا عين القلب لا عين الوجه.." فضاءات طفولتي " هو معرضه المتواصل الى يوم 12 ديسمبر برواق السعدي و ذلك بعد معرض أخير بفضاء الكونتوار ضمن أعمال لفنانين تونسيين ..في هذا المعرض برواق السعدي الذي افتتح يوم السبت 24 من نوفمبر الجاري عدد من الأعمال الفنية للفنان علي الزنايدي متنوعة و متجددة و حالمة بألوانها و أسلوبها الجمالي يجمع بينها نشدان الفنان لطفولة هي كيانه المفتوح على الأشياء في هذا العالم المربك و المتحول..كان الافتتاح بمثابة الحفل الذي حضره عدد من الفنانين و نشطاء الفنون و هواتها و غيرهم في هذا الرواق ..رواق السعدي الفضاء الأنيق للمعارض و الفنون لصاحبه الفنان المميز محمد علي السعدي..ماذا لو تأخذنا الدهشة ونحن نقتفي أثر الحلم ..هذا الحلم المتدفق من التفاصيل والعناصر حيث النظر بعين القلب لا بعين الوجه..نعم..و هل ثمة ما يضاهي الألوان وهي تلهو بجواهر الأشياء في أجواء يلفها ما يشبه النشيد..المحفوف بالنواح الخافت ..ثم ماذا لو تجلت تلك الشذرات المنبثقة من المشهد اليومي والتي هي وحدها المشكلة لهذه التي نسميها الحياة ..ماذا يفعل الكائن عندئذ.. هل يوقد جمر الكلام وهل يلوذ بالصمت وهل يقطف برتقال اللغة …وهل يمضي الى الصمت يحتفي بالألوان التي تقول ولا تقول ..تحاور وتحاول عوالم الأشياء…هي عظمة الأسئلة التي لا تلوي على غير البوح تجاه الذاكرة والحنين وبما يعزز من قوة اللحظة في راهنها وشحنتها وتألقها وتوقها ومركزيتها وهامشيتها و…جمالها الأخاذ وفعلها الثقافي ..بل الحضاري..

نعم ان الألوان تتكلم لتقول..بل تصرخ نشدانا للعين لترى ما به يصير المشهد عنوانا باذخا من عناوين الابداع والامتاع في تجليات شتى يلونها السحر والشجن المبثوث بين التفاصيل والأجزاء..ان الفنان يظل يسابق الرياح للقبض على المعاني وكنهها الانساني والوجداني وألوانها الملائمة في حيز انساني يتسم بالتعميم والتعويم ونثر الضباب لتقليص البون بين الحالة والآلة..نعم الفنان يمضي ديدنه الكشف ومساءلة العناصر والموجودات نحتا للقيمة وتثبيتا لما نسميه السمو..انه السمو بما هو ساحر وجميل وفاتن وهام في حياتنا التي يقف على أرضها المبدعون ..الفنانون الذين لا يقنعون بغير النظر تجاه الشمس نشدانا للعلو وللقيمة..أليست الشمس مهد الكلمات..و الكلمات لباسها الألوان والأصوات والحلم..من هذا الباب الذي سميناه الحلم.. ألج عوالم أحد هؤلاء الفتية المأخوذين بالفن بما هو الحلم الذي تتعدد تيماته ..حيث البساطة التي تصول وتجول في الدروب..الشوارع والأحياء والمدن ..و البساطة هي أصعب أعمال الفنان..الفتى هو الفنان الكبير علي الزنايدي الذي اتخذ لفنه نهجا مخصوصا ضمن تجربة امتدت لأكثر من أربعة عقود تميزت بدأبها الجمالي وجديتها من حيث العمل على رصد الجميل في الحياة التونسية ..

المدينة وعناصر حيويتها وحركتها المفتوحة على شتى العناوين والألوان..هناك حميمية فارقة تطبع أعمال الزنايدي منها الحكاية المبثوثة في العمل التشكيلي بما يجعله يتجاوز القماشة الى فضاءات أخرى منها الذات المتقبلة وما تزخر به من كيانات وأحاسيس الأمر الذي يحدث ذلك التفاعل الوجداني والجمالي ليصير ضربا من الثقافة البصرية المتشبثة بالأصيل والحديث لتجعل منهما جناحين للشخصية التونسية الآن وهنا..هذا الأمر يرافق أعمال الفنان التشكيلي علي الزنايدي في مختلف معارضه السابقة والحديثة سواء في تونس أو خارجها..

وهذا ما نلمسه في معرض سيدي علي الأخير بقاعة علي القرماسي بنهج شارل ديغول بالعاصمة..مسحة من التجديد وعناوين شتى وتقنيات مختلفة كانت في اللوحات لتعبر عن هذا النسق الجمالي المتجدد للزنايدي وهو ينظر تجاه العناصر المختلفة يحاولها ويحاورها ضمن القول بالتعاطي الثقافي والفكري والوجداني معها ..ان الفنان علي الزنايدي يستبطن جيدا جغرافيا المدينة ودلالات ألوانها وعطورها من حكايات وذاكرة ومناسبات وعلامات وتقاليد…ان أسلوب الزنايدي اتخذ خطه الخاص به حيث المفردة التشكيلية لا تلوي على غير القول بالعمق المرادف للبساطة وفق عنوان عام هو حميمية الفهم لحظة النظر حيث تنعدم حالة الانبهار تجاه الفنان والانسان..انها فقط لحظة ارضاء الذات التي يحتشد فيها ذاك التراكم الثقافي والوجداني والشعبي بمعناه العميق..وهنا تشتغل قدرات الزنايدي..لتواصل سيرها نحو الآفاق الرحبة التي يمنحها الفن ..

لوحات بالألوان وأخرى بالخطوط ..والكولاج بخبرة الفنان ليصبح وجها من وجوه اللوحة جماليا ..كل ذلك وفق ايقاع فني عرف به علي الزنايدي وراح ضمنه يطور أساليب العمل والبحث والابتكار..و الزمن في كل ذلك اطار متحرك ومفتوح..نعم..هكذا هو التجوال في بستان الزنايدي الفني.. و لا شيء سوى نشدان الامتاع والابداع..قولا بالعذوبة..و السحر والجمال الوجداني والمكاني والمبثوث في الحالة وهي في عنفوان بهائها .. " فضاءات طفولتي " هو معرضه المتواصل الى يوم 12 ديسمبر برواق السعدي..


حول الموقع

سام برس